حول مركزية نواكشواط المقلقة

بدأت ملامح عهد جديد تظهر في ساحتنا السياسية منذ ما بعد انتخابات يونيو الرئاسية 2019، حيث يعيش المشهد الوطني حالات تقارب غير مسبوقة بين أبرز الفاعلين السياسيين في البلد، وهي فرصة نادرة لمن يرغب في إنقاذ البلد بالتوصّل لميثاق وطني توافقي يؤسس لخطة استراتيجية قادرة على مواكبة التحديات الأمنية والتنموية في المنطقة، ويجرم بشكل قاطع استغلال تنوع تركيبتنا الإثنية وتاريخنا الاجتماعي للابتزاز السياسي والمتاجرة الدولية. 

وهنا ينبغي الانتباه إلى أن الدور الأهم في انسجام المجتمع هو انتهاج عملية سياسية غير موسمية، ولا تسند دور رجالات السياسة والمجتمع لشخصيات "تكنوقراطية أو ذات اهتمامات تجارية بحتة" مغتربة على المجتمع المحلي.

وفي هذا الإطار سيسرني أن أشارككم مقطعاً عميقاً من "سلسلة إدرامية" كان صديق عزيز عليّ قد أرشدني قبل فترة لمتابعتها.
تدور أحداث السلسلة حول إنقاذ مدينة أوكرانية من إنفجار مفاعل تشارنوبيل النووي الذي دمر منطقته بشكل كامل ولم تعد صالحة للحياة إلا بعد أكثر من مئة سنة، ومن أجل إنقاذ باقي البلاد من خطر تسرب المواد النووية عبر شبكات المياه والصرف الصحي، كان لابد من وجود 3 رجال على استعداد تام للتنازل عن أرواحهم من أجل وطنهم وأمتهم.

من أجل ذلك أسندت المهمة لعالِم نووي ورجل سياسي وبدأ العالِم النووي في شرح الموضوع لبعض عمال الأنفاق في شبكة المياه ودعوتهم للتضحية من أجل وطنهم مقابل جوائز كبيرة، لكنه فشل في الحصول على ثلاثة من العمال لتنفيذ المخطط، ليتولى بعد ذلك رجل السياسة مهمة الإقناع وبدأ في توجيه خطاب سياسي يركز على مصطلحات التضحية من أجل الوطن مع الإشارة لمسار "أمتهم العظيمة"، فكانت نتيجة ذلك المبهرة أن استجاب العمال للتضحية بأرواحهم لإنقاذ بلدهم بحماس كبير، وهنا انبهر العالِم النووي من الدور الذي لعبه رجل السياسة لإقناع العمال بدون تكليفة كبيرة.!

تقدم هذه الفقرة الذكية فكرة عبقرية نحن في حاجة للعمل بها، ومفادها أنه في اللحظات العصيبة، بل والكارثية جداً كما في حالة تشيرنبول، مهما كانت الحلول والتوجيهات التقنية مجدية في حلها، أو في التخفيف من آثارها، إلا أن ذلك لا يعد كافياً البتة، إذ لابد أيضا من إشراك السياسة، كقدرة على التوجيه والتحكم والتأثير والفصل الواعي، حتى يمكن إحداث تغييرات جوهرية تعبّر بالشكل المطلوب عن إرادتنا ومصلحتنا العمومية. 

من ثم فإن قدرة رجال السياسة على توجيه المشاعر الوطنية سلباً وإيجاباً هي التي تصنع الفارق دائما، ولذا فإن من كانت كل تلك القوة أو أغلبها لصالحه، بحكم دعم ممثليها له، فإن بإمكانه أن يقدم الكثير لأمته في "سكينة سياسية"، وفي حال حصل ذلك سيكون بديهيا حينها القول أننا قد ظفرنا بأهم نتائج القيادة الحكيمة على الإطلاق. 

على الرغم من الشرط العالمي القسري وتأثيرات أزمة كورونا، بالإضافة إلى بعض الأحداث الإقليمية المقلقة، إلاّ أنه يمكن القول أننا على الصعيد المحلي، وعلى مستوى حياتنا السياسية العمومية، نعيش لله الحمد جواً توافقياً يساعد على التطلع للقيام بحوار إجتماعي شامل. 

وبما أن ذلك إذا ما حصل سيشكل فرصة حقيقية لكل مهتم بالشأن العام ليقدم فيها رأيه ورؤيته للمساهمة بوضع لبنة في بناء وطننا الغالي، فإنني شخصياً سأكون سعيداً إذا ما عبّرتُ عن فكرةٍ طالما راودتني، وقلّبت فيها النظر بعد النظر، واستشرفتُ مآلها، وراعيتُ في بحثها مشاورة أهل السداد. 

إنني أعتقد أن أهم الأولويات الآن هو النظر في الوضعية غير الاستيراتيجية التي نتجه لها، بمركزة كل شيء في العاصمة نواكشوط، وهي وضعية خطيرة على أمننا القومي ووحدتنا الوطنية والخطط التنموية التي نسعى لتحقيقها مع شركائنا الدوليين.

فبالإضافة إلى أن مركزة أغلب الخدمات في نواكشوط يشبه في خطره المستقبلي "وضع البيض في سلة واحدة"، إلا أنه أيضا يمثل أحد أهم الأسباب المساعدة على تفاقم "البركان الشرائحي" المهدد لهويتنا ووحدتنا منذ سنوات.

فالمتابع لتطور الخطابات العرقية والشرائحية في السنوات الأخيرة يلاحظ أن وضعية نواكشوط تساعد بشكل كبير على "استفحال الظاهرة"، حيث أصبحت المدينة مقسمة على شكل مقاطعات فئوية -في تنافر دائم بين مكونات البلد - لكل منهم مدارسه وأسواقه واهتماماته الإجتماعية، ولا شك أن هذا التنافر إذا استمر بالتشكل مع وجود خطابات عنصرية محرضة في المجالس الخاصة وفي وسائل التواصل الاجتماعي فسنحصد في المستقبل نتيجة كارثية، ولن تكون مسألة التعايش السلمي التي عاشتها الأجيال السابقة ممكنة رغم كل التدابير المعمول بها "قانونيا وتنمويا"، ولعلنا جميعا نتذكر بعض الأحداث المقلقة التي حدثت في السنوات القريبة الماضية كقضية احتياجات النقل 2017 وأحداث ما بعد الانتخابات الرئاسية 2019. 

وإذا نظرنا في بعض التجارب الدولية، فسنلاحظ أن التجربة اللبنانية التي ركزت على خيار المحاصصة أدخلت الشقيقة لبنان في مأزق حقيقي، فلا التنمية تحققت ولا القضية الطائفية انتهت!

أما بالنسبة لجارتنا الشقيقة المغرب التي ركزت على التنمية المحلية فقد تجاوزت كل المخاطر والتوترات الداخلية ونجحت خطتها التنموية رغم قِلة الموارد الطبيعية لديها.

إذن، ومن وجهة النظر هذه فإن هذا التركيز الدائم من سلطتنا وتجارنا وأحزابنا السياسية - كل حسب مسؤولياته واهتماماته - على مدينة نواكشوط جعلَ المواطن البسيط لا يتخيّل الحياة ممكنة إلا فيها، ولولا العوامل الطبيعية التي تفرض على البعض الهجرة السنوية بين الداخل والعاصمة لكانت مدننا الداخلية خاوية على عروشها منذ مدة.

ختاماً، سأترككم تتخيّلوا معي هذه المفارقة من خلال ما حدثني به أحدهم قبل أيام، وهو أنه التقى في الخريف الماضي (خريف كورونا 2020) بأسرة عريقة وضاربة الجذور من سكان الحوظ الأصليين لم يزر أبناؤها أرض «الحوظ» قط قبل هذا العام. عندها حدّثت نفسي بحرقة من يتذكر عزف بلغامه: أيّ مأساة أكبر من أن تبلغ أجيال من أبناء هذا البلد وحياتهم مختزلة سنويا بين نواكشوط، كازا، لاس بلماس.!؟

أحمدو ولد أبيه
ناشط شبابي

 

خميس, 18/02/2021 - 10:36