من تاريخ الكادحين: مهمة صعبة في مدينة النعمة سنة 1971

سيدى ولد  احمد ديه وبدن ولد عابدين

   الحلقة (11)

 

بعد الحديث تحت الشجرة عن الكادحين وما اجمع عليه الحاضرون من تسفيه أحلامهم وذم  أهدافهم، طاف فى خيالي سؤال أسررته فى نفسي:سبحان الله ! لماذا يتهرب القوم عن لُبّ الموضوع وعنوان الصراع الأبرز بين الكادحين والحكومة؟ لما لا يتعرضون فى كلامهم لجوهر الخلاف الذي هو بامتياز خصومة سياسية ومطالب الناس برفع الظلم والغبن عنهم وتحرير طاقات البلد من براثين الاستعمار الغاشم ؟ إنهم بدل مقارعة الحجة بالحجة  وإقناع الأخر بما لديهم من قولٍ وبينة،  يعمدون الى نسج القصص والأقاويل والتفنن فى أكاذيب  باطلة ما أنزل الله بها من سلطان ...ولا وزير! هم صراحة كما قال المثل الفرنسي "من أراد قتل كلبه اتهمه زوراً وبهتاناً بمرض الكٓلٓبِ".

بينما أنا أجترٌ حديث النفس اجترارا ،لا أستطيع البوح بما يدور فى خاطري إِذْ أذّنٓ  مؤذن: أيها القومُ الى سياراتكم إنَّا مرتحلون.. انطلقت عابرات الصحراء متوجةً الى مدينة النعمة.

توقف الموكب بمدينة تمبدغة ، سمعت بعض المسافرين يلقبونها "أتْنٓيْبٓهْ" تعبيراً عن حبها وتقديراً وإجلالاً لساكنيها! بعد التوقف واصل الموكب المسير الى النعمة، بدأتُ أشعر بالحمى وبآلامٍ مبرحة فى البطن، أحسستُ بها عند مغادرة  لعيون لكنها تفاقمت بتأثير حركة السيارات رباعية  الدفع تهُزٌ الجسمٓ هزاً.

أثناء الطريق وبعد أن نفد صبري على تحمل الألم والحمى الشديدين ، سألتُ سائق السيارة التي أستقلها ضمن الوفد عن المسافة التى تفصلنا عن مدينة النعمة ، أجاب :ثلاثون كلمتراً.

قلتُ له سأهبط عنكم هنا، المعلم الذى أقصده موجودٌ قرب المكان وعلى هذا البُعْد من المدينة.

ابتعدت عني السيارات بعد أن لفني غبارٌ كثيف  أثارته عجلاتها. تابعتُ الرحلة بصعوبة وعناء، ارتفعت حرارة جسمي،  تملكني عطش سببه الحرٌ الشديد وما أفقده من سوائل. خارت  قواي وانتابني الوهن والخور ، عندها أيقنتُ أني لا محالة من الهالكين!

أدرت شريط حياتي كله؛ تذكرت الرفاق الطيبين أوقفتُ دوران الذكريات على صورة سميدع ووجهه الوضاح والبطولات التى يُسطرها الأحباب فى كل مكان، يُقارعون المستبدين ويتصدون للظالمين. قلتُ فى قرارة نفسي أنا ان متّ فلستُ إلا قطرةً من بحر المناضلين  يتقدمون موجاتٍ تتلوها موجات نحو الهدف المنشود. ولما بدأت أترنّحُ وتضلٌ من قدمي الطريق وأخذت خطاي فى التباطئ ، إذا بقافلة تقترب مني تسير فى الاتجاه المعاكس، أشرتُ إليهم بكفي نحو فمي، أعياني الكلام ! أقبلوا  علي بماء ٍأخذتُ أبتلعه بسرعة ، صاح أحدهم توقف توقّف! لا تُسْرِعْ، العطشان خلاصه الشراب جرعةً جُرعةً وإلا  هلكٓ!  بدأت شمسُ  اليوم الثقيل الطويل تجنحُ للغروب فتتوارى رُويداً رُويداً خلف الكثبان وأشجار الغابات .نهضتُ من كبوتي ، ودعتُ السابلين من أصحاب القافلة وقلت لهم بتأثرٍ وقد إغْروْرقتْ عيناي بالدمعِ : أنقذتم حياتي فلكم الشكر والامتنان يا أبناء الأكرمين.

دخلتُ مدينة النعمة عِشاءً خائرٓ القوى، لا تكاد تحملني قدماي من التعب والإرهاق! سألتُ المارة عن دار أهل بُبكّرْ، أشاروا إلى زقاق يُوصِلُ إليها، طرقتُ الباب استقبلني صديقي وابنهم الخلوق الودود محمد لمين الملقب أنّنّ المغفور له بإذن الله  (في الصورة المرفقة)  وكان ناشطاً شجاعاً فى حركة الكادحين. وتقلد المغفور له بعدما أكمل دراسته وظائف فى إدارة مؤسسات عمومية عِدّة .

الصورة التي طبعها الراحل فى مخيلتي وأكدها رفاقه الأقربون هي ، صورة إنسانٍ خلوقٍ صبورٍ تعددت شمائلُه . رغم ما كنتُ أقاسي من ألمٍ  وإرهاق لم يذُقْ جفني  طعم المنام، بتٌ أعدٌ ساعات الليل الطويل ساعةً بعد أخرى وما أنِ أنبلجٓ الصبْحُ حتى أخذني الوالد الحنون المرحوم محمد محمود بن بُبٓكّرْ الى مستوصف المدينة وأعطاني الدواء الشافى فبدأت صحتي تتحسن. فى اليوم الموالى جمعتُ كبار المناضلين فى المدينة ،سلمتُهم حصتهم من المنشورات وأبلغتهم أخبار الكادحين وما اكتسبوه فى البلاد. بعد إكمال مهمتي فى مدينة النعمه، علمتُ أن الأمن رصدٓ نشاطاتي وشرع فى البحث عني وزار أماكن مررت بها و أنهم يُغْلقون  منافذ المدينة ويستجوبون  المسافرين المغادرين.

خرجتُ من النعمة سيرا على الأقدام، سجلٓ الرفاق تذكرة راكب منهم غير معروف، أخذٓ مقعده بين المسافرين ولما تخطت الحافلة مركز  الرقابة وابتعدت عن أعينهم أوقفها وهبط منها فجلستُ مكانه وتابعتُ الرحلة الى مدينة تمبدغه.

 

أنا ومن معي لا نُفتّشُ ولا نُسْأَل  عن شيٍء

 

وصلنا المدينة  ليلاً، استقبلتنا عند مدخلها فرقة من الأمن أمرونا جميعاً بالتوجه الى المخفر، ولما وصلناه طلع علينا  فوق الشاحنة أحد أفراد الأمن، طلب بطاقات تعريف الركاب أجابه شيخٌ كان يجلس بجانبي، يبدو أنه من أعيان البلدة: أنا فلان بن فلان كل الناس يعرفونني أنا وأتباعي لا نُفتشُ ولا نسألُ عن شيء، رد رجل الأمن: حسناً اهبط أنت ونفرك ، انتهزت الفرصة الذهبية فنزلتُ مع الشيخ أسنِدُه كأني من  أتباعه ومريديه!  وبعد تفتيش السيارة واستجواب المسافرين تابعنا رحلة العودة ليبدأ من جديد مسلسل العمل الأبدي  لسعاة بريد المهمات الخاصة، جنود الكادحين المجهولين ، يسطرون  أروع  المعجزات ويُنجزون أصعب المهمات !

محمد لمين ولد  ببكر
أربعاء, 10/02/2021 - 23:01