تاريخ التصوير في موريتانيا.. من الرسم إلى الصورة الشمسية

الصورة طريقة لإيقاف الزمن عند لحظة معينة، وهي من الأدوات النادرة التي ينتصر بها الأنسان على النسيان، فكم من لقطة سجلت لحظة معينة وجعلتها تاريخا باقيا،ولولا الصورة ما عرفنا شيئا عن تلك اللحظة. ومن يشاهد الصور القديمة يجد فيها تاريخا دقيقا كما يجد تفاصيل مختلفة حول الأزياء والشكل والقسمات والبيئة.

واليوم، ومع تطور تقنيات الاتصال تأخذ الصورة أهمية بارزة في توضيح الخبر، حيث نجد أن تصميما معتمدا على الصور، أو إنفوغراف للصور معمول بشكل متقن، إنما هي وسائل تلخص الكثير من المعاني تعجز الكتابة عن الإحاطة به. وليس من العجيب أن أصبحت الصورة تجارة وصناعة ترويجية واقتصادا، بل إنها جزء من تشكيل الرأي العام وتوجيهه والتأثير فيه.

وسنحاول في هذه المقالة التعريف بتاريخ التصوير في موريتانيا ما قبل الاستقلال، كيف بدأ؟ ومن هم أهم المصورين الأوروبيين الذي اهتموا بإنجاز صور عن بلادنا، وكيف تطور التصوير المتعلق بموريتانيا؟

 

قصة البداية كانت مع الرسوم

تعود بداية دخول التصوير في هذه الصحراء الشنقيطية إلى منتصف القرن التاسع عشر، وحينها كانت الرسوم (بورتريهات مفردها بورتريه) هي المنتشرة وليس الصور؛ حيث كان الرحالة الأوروبي، قبل وصوله إلى إفريقيا، يقوم بتكوين دراسيعلى الرسم وهو في أوروبا، وحين يأتي لهذه البلاد وإلى غيرها من مناطق إفريقيا الغربية يأتي معه بعدته من أقلام رصاص وأوراق تصوير وغير ذلك. وقد تكرر هذا النوع من النشاط فوجدنا العديد من المستكشفين الأوروبيين يصممون رسوما لأعلام وشخصيات موريتانية، وقد عرفنا بعضها وغابت عنا معرفة بعضها.

من أبرز الرسوم التي عثرنا عليها رسم (بورتريه) يعود للقرن السابع عشر وهو لشخصية بارزة من قبيلة غزونَه التروزية الموريتانية ولم يذكر اسم صاحبه، ولعله منأقدم الرسوم التي دونها الرحالة الفرنسيون في رحلاتهم لما مروا ببلادنا، وهذا الرسم موجود (ويجد به رجل وجواده) في متحف الإنسان (Le musée de l'Homme) في قصر شايو بباريس. وتظهر في هذا الرسم أمور منها: أن الرماحَ هي سلاح القرن السابع عشر في موريتانيا، وهي رماح فارعة الطول تزيد على المترين، وفي رأسها نصل حاد جدا، فالبنادق لم تنتشر بعد في ذلك التاريخ. ومنها أن اللباس عبارة عن كساء مصنوع من الصوف أو الجلود يضْطَبِعُ به الرجل (والاضطباع أن يأْخذ الرجل الكساء فيجعل وسطه تحت إِبطه الأَيمن ويُلْقِيَ طَرَفَيْهِ على كتفه اليسرى من جهتي صدره وظهره، وسمي بذلك لإِبْداءِ الضبْعَيْنِ، والضبع: أوسَطُ العَضُدِ). ويتضح من الرسم الذي يوجد فيه الرجل العزوني وجواده أنهم يقيدون خيلهم تقييدا خاصا فيجعلون في كل وظيف من أوظفة الفرس حبلا يشد إلى وتد في الجهات الأربع بعد أن يجعلوا بين كل وظيف وآخر حبلا يُدانُون به قيدَه ولا يُمْلُونَ له فيه كأنهم يمنعونه من الرسيف.

وقبيلة عزونه قبيلة من الترارزة، وهم: بنو اعلي بن تروز وبطونهم: وأولاد بنيوگ ولگبَاعَاتْ وأولاد آكشار (أولاد آكشار الترارزة لا أولاد آكشار يحيى بن عثمان)، ومن زواياهم أولاد بازيد والطلابين. وفيهم قوة وشكيمة وشجاعة منقطعة النظير، وأغلب مناطق سكنهم في القرن السابع عشر والثامن عشر، حسب كتب الرحالة الفرنسيين،في شمامه على الضفتين اليمنى واليسرى لنهر السنغال. ويقول امحمد ولد أحمد يوره ذاكرا قبيلة عزونه في أبيات:

أنا ونجلُ فتى الفتيانِ "راعِينَا"...ونجلُ جَلَّدِّي حولَ الخود مُنِّينَا
فتارةً ببياض الثغر تضحكنا... وتارة باحمرار الخد تبكينا
لو كان تبتاعها عزونَه في ثَمن ... من الدُّنَيَّا فأيديهم وأيدينا

 

ويعني  بقوله: "ابن فتى الفتيان" أمير الترارزة الأمير أحمد سالم ولد محمد الحبيب المقتول رحمه الله ليلة 20 مايو 1873 بأيْشايَه غرب المذرذره، و"ابن جلدي" هو محمد ولد جلدي وكان من الظرفاء المشهورين وله مع ابن أحمد يوره إخوانيات شعرية ظريفة.

 

رسوم القرن التاسع عشر بموريتانيا:

من أول الرسوم المنجزة في القرن التاسع عشر والمتعلقة ببلادنا رسوم المستكشف الفرنسي آن رفانيل (Anne Raffenel) المتوفي 12 يونيو 1858م، وهو كاتب ومستكشف فرنسي عمل مفوضا في البحرية الفرنسية في بداية القرن التاسع عشر وكان عضوا في شركة الجغرافيا التي كانت تسيِّر التجارة بين فرنسا وإفريقيا. تم تحويله إلى السنغال سنة 1842 وكلف في السنة الموالية بالقيام برحلة شملت بعض مناطق إفريقيا الغربية ومن بينها بلادنا. وقد نشر كتابا عن رحلته تلك سنة 1846.ويتحدث رافانيل في كتابه عن شخصيات من إدوعيش وأخرى من البراكنة ومن إودالحاج ومن الترارزة. وهذا أحد رسول رافانيل الشهيرة:

ومن أبرز من ترك لنا رسوما عن الموريتانيين القس الفرنسي والسنغالي دافيد بوالا، وهو خلاسي (من أب فرنسي وأم سنغالية) ولد عام 1814، أثناء الاحتلال البريطانيلمدينة اندر في فترة الحروب النابوليونية. وكان أول سنغالي يتدرج في رتب الكنيسة الكاثوليكية بسان لويس بالسنغال. وقد نشر سنة 1853 كتابه "ملامح سنغالية" (Esquisses sénégalaises)، وأدرج فيه رسوما ليست له، فبعضها لرفانيل المذكور آنفا وبعضها لغيره من المستكشفين الأوروبيين. من بينها رسوم هامة لبعضالشخصيات الموريتانية نشرها بوالا في كتابه ملامح سنغالية رسم نظم أنه للأمير التروزي بابه بن اعلي بن أعمر الذي كان أميرا جليل القدر وكريما تكثر العفاة عنده. وقد توفي في حدود 1818 عند لطيون جنوب الركيز وكان يسعى إلى أن يكون أميرالترارزة، فرأست جماعته من بعده امحمد بن اعلي الكوري. وقال النابغة الغلاوي فينظمه في العبر المعروف بأم الطريد متعظا بموته المفاجئ:

وهُدَّت الأرض لموت بابا

 

وفتحتْ لكل ظلم بابَا

وغير بعيد من الفترة التي نشر فيها بوالا كتابه ملامح سنغالية نجد رسما لسيديعلواته بن الشيخ سيدي محمد الخليفة بن الشيخ سيدي المختار الكنتي وقد تم انجازهقبل أغسطس 1861 تاريخ وفاة سيدي علواته وهو الابن الثامن للشيخ سيدي محمدالخليفة. الذي كان دبلوماسيا محنكا ومصلحا كبيرا حاول أن يصلح بين الحاج عمرالفوتي أثناء حربه مع أحمدو الثالث بن أحمدو لبو الفلاني أمير ماسنة (1961 إلى 1862) لكن الحاج عمر وضع شروطا دقيقة منعت وساطة سيدي علواته من بلوغأهدافها. ومصدر هذا الرسم مجلة "عالم الرسوم" الفرنسية (Le Monde Illustré).

وقد نشر العديد من الرحالة الأوروبيين في القرن التاسع عشر رسوما لشخصيات موريتانية، ومن أولئك الرحالة: نشر عدد من الرحالة الرائد هنري فينسان (توفي 27 مارس 1911) الذي زار إمارة آدرار سنة 1860 وترك رسوما من بينها رسم لجدنا القاضي أبنو ولد سيدنا الديماني المتوفى سنة 1899م. وكذلك الرحالة والصحفيغاستون دوني (توفي 1908) الذي ترك لنا رسما لمحمد سالم ولد محمد ولد أعمر ولدمينحنا السباعي الذي كان سنة 1861 مترجما من الدرجة الرابعة بمحكمة سينلوي"اندر". وكذلك الرحالة كاميل دولس (توفي بأقبلي بالصحراء الجزائرية 6 فبراير 1886) الذي وضع رسما للشيخ ماء العينين بن الشيخ محمد فاضل سنة 1887م.

 

النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأول صور فوتوغرافية فيموريتانيا

أول صورة شمسية لشخصية موريتانية تعود سنة 1864 وهي لأمير الترارزة الشهير اعلي بن محمد الحبيب وهو أمير الترارزة من سنة 1290هـ/1872م حتى1303هـ/1886م. ومصدر الصورة أرشيف معهد الدراسات الإفريقية بسان لويس.وكان التقاطها للأمير اعلي وهو ابن ثلاثين سنة، وقد التقطت أربع سنوات بعد مقتل أبيه الأمير محمد الحبيب.

ومن أشهر المصورين الذي اعتنوا بلادنا نهاية القرن التاسع عشر الدكتور بونفيد(Bonnevide) وهو طبيب فرنسي ولد سنة 1824 وتوفي سنة 1906. جاء إلى مدينةاندر سنة 1880 وأقام بها حتى سنة 1887 والتقط صورا كثيرة من بينها صورفوتوغرافية موريتانية ربما تكون من بين أقدم المعروف من الصور الفتوغرافية عنموريتانيا. وكان اهتمامه بتصوير الزعماء التقليديين والأجناس المتعددة والأزياء ولميهتم بالبطاقات البريدية.

وقد اهتم بموريتانيا المصور الفرنسي جان ماري بايول (Jean-Marie Bayol)الطبيب والضابط في البحرية والمستكشف الذي كان مسؤولا عن العديد منالبعثات الاستكشافية الفرنسية كان يلازمه في أسفاره مصور يدعى أرنيست نوارو(Ernest Noirot)  وهو الذي وضع المخطط الرئيسي لمدينة كوناكري في عام 1887م

ومن الصور التي ترك لنا بايول صورة من إمارة تڮانت وهي للترجمان إبراهيم فالوهو من قبيلة من إدوعيش ومن أوائل المترجمين الموريتانيين. وتعود الصورة لسنة1890، ويبدو أن هذا الترجمان، الذي لم نجد عنه الكثير من المعلومات، كان من المشرفين على القوافل الموريتانية في مرسى بَكَّلْ الذي كان تحت إشراف أمراءإدوعيش منذ إنشائه، وكانت تأتيه قوافل العصابة وتگانت سنويا خلال موسم بيعالصمغ العربي وغيره من البضائع.

 

بداية القرن العشرين: صناعة البطاقات البريدية

مع بداية القرن العشرين كثرت صور الشخصيات الموريتانية، وتعددت الصور التي تهتم بحياة الموريتانيين وعاداتهم. ومن أبرز مصوري بداية القرن العشرين المصورالمحترف فرانسوا ادمون فورتييه (François-Edmond Fortier) المولود سنة 1862 في فرنسا

والذي استقر بداكار سنة 1900، كما اشتهر باهتمامه بصناعة البطاقات البريدية؛ حيث أصدر أكثر من 3300 بطاقة. وقد توفي سنة 1928 في داكار. وضمن ما ترك فورتييه من بطاقاته البريدية الكثيرة توجد صور لشخصيات ومناظر من موريتانيا.

والصورة أسفله من صور فورتييه ويشيع في مواقع التواصل الاجتماعي أن هذهالصورة للشاعر الشهير محمد ولد أبنو ولد احميدن الشقروي وذلك غير صحيح.

ومن مصوري بداية القرن العشرين المصور الفرنسي بيير تاشي (Pierre Thacher) المولود سنة 1875بفرنسا وقد حل بالسنغال حوالي عام 1910، وتوفي باندر سنة1938. وهو من أبرز من اهتم بالبطاقات البريدية بعد فورتييه، ترك إنتاجا وفيرا عنموريتانيا وذا جودة عالية وتنوع كبير. ومن بين ذلك صورة سيدي المختار بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا الأبييري الملقب اباه رحمه الله تعالى (توفي 1370هـ/ أي 1950م)، ومعه في الصورة ابنه محمد.

كما ترك صورة جميلة لأمير الترارزة أحمد سالم ولد إبراهيم السالم رحمه الله تعالى(توفي 28 ذي الحجة 1348هـ أي 25 مايو 1930م)) ومعه مجموعة من مساعديه ومقربيه:

وكان المصور بينيل (Penel) صديق المصور بيير تاشي وقد ترك مثل صديقه تاشي صورا كثيرا في بداية القرن العشرين. وفي مجموعاته الصورية العديد من المناظر والشخصيات الموريتانية من أبرزها صورة الأمير المجاهد سيدي أحمد ولدعيدة رحمه الله تعالى (توفي 11 ذي القعدة 1350هـ أي 19 مارس 1932)، ويعود التقاط هذه الصورة لفترة الإقامة الجبرية التي فرضها الفرنسيون على الأمير سيدي أحمد باندر لما جرح بتيشيت سنة 1912. وقد تم تحويل صور بنيل إلى بطاقات بريدية نالت رواجا كبيرا ودرت عليه مردودا ماديا.

وهناك مصور فرنسي يسمى جيل (Gil) ولم أحصل على معلومات محددة عنه، وهوالذي ترك مجموعة هامة من الصور الموريتانية في النصف الأول من القرن العشرين وكان يضع توقيعه بشكل جميل على صوره.

ومع خضوع موريتانيا سنة 1903 للاستعمار الفرنسي، التقطت السلطات الاستعمارية الفرنسية صورا للكثير من الأعيان الموريتانيين، والكثير من تلك الصور توجد في مخازن الأرشيف. وبعض هذه الصور موجود في الأرشيف السنغالي،وبعضها في الأرشيف الفرنسي، والبعض عند أسر الضباط الفرنسيون الذين حكموا موريتانيا خلال الاستعمار. والكثير منها موجود على الشبكة ومعروض للبيع الإلكتروني. كما اهتمت الجرائد الفرنسية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بشكل بموريتانيا. ونشرت تلك الجرائد لعديد من الصور لشخصيات موريتانية. ومن بين تلك الجرائد: لوماتين (Le Matin)، ولاكروا (La Croix)، ولوبتي باريزيان (Le Petit Parisien)، وليزانال كولونيال (Les Annales Coloniales)وغيرها.

ومن أمثلة ذلك صورة المقاوم محمد المختار ولد الحامد الكنتي الوافي رحمه الله تعالى (توفي بالمدينة المنورة في حدود 1915م):

وصورة الأمير أحمد سالم ولد اعلي "بيادة" رحمه الله تعالى (توفي 12 صفر 1323هـ أي 18 إبريل 1905م) وتعود الصورة لسنة 1903:

وهذه صورة لأمير الحوض اعلي محمود بن أحمد محمود بن المختار بن لمحيميد رحمه الله تعالى زعيم مشظوف الشهير وهو راكب، وقد أخذت هذه الصورة في الحلة بداية سنة 1914، وهي منشورة في اليومية الفرنسية Annales Coloniales الصادرة يوم 16 أبريل 1914:

وهذه صورة رئيس أولاد الناصر عثمان ولد بكار رحمه الله تعالى، وكان من الشخصيات الموريتانية البارزة في النصف الأول من القرن العشرين، والمصدر جريدة: Vie Mauritanienne التي كانت تصدرها الادارة الفرنسية في اندر:

ولعل أبرز مصدر فرنسي للصور الموريتانية في القرن العشرين جاء عن طريق الرحالة والكاتبة أوديت دي بويغودو (Odette du Puigaudeau)، وهي رسامة ومصورةومؤلفة فرنسية، ولدت سنة 1894. وجاءت الى موريتانيا أول مرة نهاية 1933 مع زميلتها ماريون سينون (Marion Sénones) وغاردتها نهاية 1934. وتوالت أسفارها بعد ذلك إلى موريتانيا وبلغت جميعها خمسة أسفار. وقد أخذت الكثير من الصور عن شخصيات وعن مناظر من بلادنا وألفت عنها عدة كتب عنها. وقد استقرت أوديت في المغرب منذ 1961 إلى وفاتها بالرباط في يوليو 1991. ومن صورها الشهيرة صورة الأمير أحمد ولد الديد (توفي 28 ذي الحجة 1348 هجرية الموافق 25 مايو 1930):

وكذلك صورة عبد الله ولد الشيخ سيديا (28 جمادى الثانية 1383هـ الموافق: 15 نوفمبر 1963م) وأخيه إبراهيم (توفي 1983م):

ومن صورها المعروفة صورة الزعيم الوجيه يوبا ولد عبدي وهو من أبرز الشخصيات في بدايات القرن العشرين لا في منطقة تݣانت فحسب بل في موريتانيا كلها:


ومن صور أوديت أيضا:

خاتمة:

بات من المفيد على المستوى الرسمي الاعتناء بالصور التاريخية الموريتانية المتفرقة في المراكز والأرشيف الأجنبي. كما انه من الضروري تشجيع المبادرات الذي من شأنها التعريف بهذا الاهتمام المفيد والغائب عن الساحة الإعلامية. فضلا عن إنشاء مؤسسة للحفاظ على التراث الموريتاني المصور، والسعي من أجل الحصول على التراث الموريتاني المصور في السنغال وفي فرنسا. وتثمينا لذلك ينبغي تنظيم معارض للصور في داخل البلاد وخارجها.

اثنين, 08/02/2021 - 22:10