كيف اهترأت المنظومة القيمية عندنا؟

يحلل هذا المقال تحت عنوان »إعادة فتل مُبرم الوازع والمانع « كيف انحسرت المنظومة القيمية للمجتمع عندنا خلال التحول من المجتمعات الضيقة في الأرياف والمدن القديمة إلى مجتمعات المدن الكبيرة حيث يتمركز اليوم النشاط الاقتصادي وتدور غالبية المعاملات. 

إن الوازع هو أن ترى فعلك وقولك قبل فعله فتعرضه على منظومة قيمية ذاتية فتقرر أن تمتنع عن فعله دون أن يكون هنالك عائق قائم أو عقوبة تخشى أو نتيجة تُتجنب فقط لأنك اعتبرت أنه لا أخلاقي أنك لا تريد أن ترى نفسك له فاعل. وإن المنظومة القيمية الذاتية وإن كان من بينها الفطري فإن غالبيتها العظمى مكتسبة من ملاحظة ردود أفعال الناس على أفعالنا وعلى أفعالهم فيما بينهم ومن التربية الدينية والمدنية التي تقصد المجتمعات تقديمها للأفراد في مراحل مختلفة من حياتهم من خلال برامج محددة تهدف إلى خلق مشترك قيمي. ثم تتعزز هذه المنظومة القيمية في مراحل لاحقة من خلال العلم والتعقّل لمن أتيحت له فرصة ذالك.

وإن المانع هو العوائق والأثمان التي تضعها المجتمعات لمنع مخالفة منظومة قيمية معينة وهو أصناف ثلاث:  

المانع القائم وهو استخدام القوة العمومية لمنع أفعال معينة تصبح من خلال ذالك غير متاحة

المانع العدلي وهو منظومة العقوبات التي تضعها المجتمعات من خلال نصوص وآليات لمعاقبة أفعال معينة بعد حدوثها

المانع المجتمعي وهو الأثمان التي تضعها المجتمعات حماية لمنظومة قيمية جامعة فيدفعها مرتكبو أفعال معينة تجعلهم يخسرون مكانة اجتماعية أو امتيازات وتسهيلات على ارتكابهم لتلكالأفعال. وهي أثمان معروفة عند جميع أفراد المجتمع المعني و غير مكتوبة في الغالب وتستمد فاعليتها من تقاسم أفراد المجتمع عامة الحرص على تطبيقها على المخالفين للمنظومة القيميةومن تعارفهم فيما بينهم.

وإن المنظومة القيمية الفردية هي منظومة واقعية في إعادة تشكل مستمر حسب الواقع المعاش والفرص المتاحة ومستوى تناقضها مع المصلحة الفردية وهي منظومة من عدة مستويات منها العميق الراسخ ومنها ما هو دون ذالك وتخضع لعملية مد وجزر حسب مستوى تسيب المجتمعات وأثمان التشبث بها ومستوى ترسخها عند الأفراد.

وإن المانع يعزز الوازع ويرممه, فان الإنسان إذا منع الفعل المخالف لمنظومته القيمية الذاتية أقام عليها وترسخت عنده وفاخر بها فأسهم في نشرها وإن أصبحت مخالفتها متاحة لا مانع يمنعها واقتضتها المصلحة الفردية خالفها كثير من الناس وتأول لنفسه ثم تعهد مخالفتها حتى أصبح لا يستقبح ذالك ولا يربي من له عليهم سلطان على الابتعاد عنه فانحسرت المنظومة القيمية تدريجيا إلى حدودها الدنيا. وحدودها الدنيا هي تلك التي تسمح للفرد أن يبقي لنفسه عن ذاته صورة ايجابية دون أن يحول ذالك بينه وبين أية مصلحة فردية ذات بال.

كما أن الوازع لا غنى للمانع بأصنافه الثلاث عنه. فإنه لا يقوم مانع عدلي دون قيمين عليه ولا يستقيم إذا قام عليه قيمون لا وازع لهم. كما أن المانع المجتمعي يقوم على استنكار المجتمع ومعاقبته خرق منظومة قيمية معينة فهو بطبيعة الحال لا يستقيم في مجتمع فقد أفراده وازعهم. وان المنع بالقوة العمومية لا يثمر إلا تحقيق المصالح الفردية للقائمين عليه إذا قام عليه أفراد لا وازع لهم. فان المنظومة القيميةلمجتمع معين مُبرم من سحيلين : الوازع و المانع إذا اهترأ أحدهما انتحت الآخر.

في المجتمعات الضيقة - مجتمعات الأفراد المعروفة - تشكل الأثمان الاجتماعية مانعا كافيا لتعزيز الوازع ومنع انحسار المنظومة القيمية للأفراد, وقد كان ذالك حال مجتمعاتنا الضيقة في الأرياف و المدن القديمة,فكانت آلية المنع تعتمد بشكل أساسي على المانع المجتمعي, وكان المانع العدلي هامشيا حتى أنه في بعض مجتمعات الأرياف كان اللجوء إلى القضاء مذمة لأنه يعتبر خروجا وعدم قبول بآليات التسوية المعتمدة داخل الإطار الاجتماعي, وكان المانع القائم معدوما تقريبا. ومع ورود الناس من فجاج شتى إلىالمدن المتعاظمة تحولت مجتمعاتنا الضيقة معلومة الأفراد إلى مجتمع واسع تراجع فيه مستوى تعارف الأفراد فلم يعد المانع المجتمعي القائم على الأثمان الاجتماعية فعالا وأدى عجزنا عن استباق الظاهرة أومواكبتها من خلال إحكام مانع بديل إلى اهتراء الوازع تدريجيا وانحسار المنظومة القيمية الفردية, لأن الوازع لا يستمر دون مانع يحميه ويعززه إلا عند قليل من الناس.

فنحن ارتكبنا خطأين في فهم التحول الذي واكب ميلاد مجتمعات المدن الكبيرة والذي أوصل المنظومة القيمية عندنا إلى ما هي عليه اليوم :

- الأول أننا لم نفهم أن المنظومة القيمية ستتأثر بالتحولات التي تحدث في بيئة تناقلها و التي تفرضها حياة المدن الكبيرة من الانحسار التدريجي للأسرة إلى حدودها الدنيا و من انشغال الآباء بالعمل ومتطلبات الحياة وانشغال الأبناء بوسائل الترفيه مما جعل بيئة تناقل المنظومة القيمية تنحسر نوعيا وزمنيا فتنحسر معها المنظومة القيمية ومستوى تجذرها عند الأفراد.

- والثاني أننا اعتقدنا أنه في مجتمعاتنا الضيقة كان احترام المنظومة القيمية المشتركة يقوم على الوازع فحسب ومما أوقعنا في هذا الخطأ أننا نعرف أن المانع العدلي كان فيها ضعيفا و نادرا ما يلجأ إليه ولم نفهم أن المنظومة القيمية لا يمكن أن تقوم على الوازع وحده وأن الثمن المجتمعي كان مانعا حقيقيا يحمي المنظومة القيمية ويعزز الوازع ولم نفهم أن طبيعة هذا المانع ستجعلفاعليته تنحسر حتما في المدن الكبيرة لضعف مستوى تعارف الأفراد فيها.

إن علينا إذن أن نخلق إطارا تكميليا يعوض النقص الحاصل في بيئة تناقل المنظومة القيمية من جراء التحولات التي واكبت ولادة مجتمعات المدن الكبيرة ويضمن ترسيخ مشترك قيمي يتقاسمه الجميع على اختلاف أصولهم الجغرافية والثقافية تشكل الأمانة لبنته المحورية لأن الأمانة على الأموال والحقوق واسطة عقد القيم ضياعها مهلكة الأمم فهي محدد الثقة الضرورية بين المتعاملين والشركاء في القطاعات التجارية والإنتاجية.

وعلينا أن نصمم ونحكم مانعا عدليا - بديلا للمانع المجتمعي الذي لم تعد ظروف فاعليته قائمة, لا يدع مجالا من مجالات التعامل - من معاملات الناس فيما بينهم إلى معاملاتهم وحقوقهم في الإدارة والأمن والضرائب والجمارك والقضاء - إلا ضمن فيه الحقوق وأعادها بالسرعة التي تضمن انسيابية المعاملات مع إنزال العقوبات الرادعة. يقوم عليه قيمون ممن في هذه المرحلة التي وصلت فيها الأمانة على الأموال والحقوق إلى ما هي عليه اليوم استطاعوا أن يعضوا على الوازع بالنواجذ. 

إن المنظومة القيمية عند بعض الأفراد أظهرت مقاومة مذهلة للاهتراء في ظروف التسيب التي يعيشها مجتمعنا منذ عقود. وقد يكون من أسباب هذه الحالات  التي أصبحت استثنائية مستوى صدق وإخلاصالبيئة التي تلقى المرء فيها منظومته القيمية ومدى مطابقة الأقوال للأفعال عند القائمين على التوجيه فيها.ولأن مجتمع النشأة لايزال قائما في أذهانهم بقيمه وقيوده, بوازعه ومانعه وبهيبة آمريه.

وللأسف الشديد فان التباين بين الأقوال والأفعال والمبالغة في معذرة النفس وتأول المعاذير لها منتشر في كثير من مجتمعاتنا التقليدية وهو ما أنتج عند البعض منظومة قيمية هشة اهترأت بسرعة مع انهيار المانع المجتمعي الذي واكب تشكل مجتمعات المدن الكبيرة في فترة تبين فيها أن المانع العدلي ليس محكما بالقدر الذي يجعله رادعا. وقد أدى إفلات هؤلاء من العقاب لضعف المانع العدلي والمكانة التي حظوا بها في أوساطهم الاجتماعية والتي جسدت انفراط المانع المجتمعي بكثير ممن يحملون منظومة قيمية واقعية إلى التسابق إلى درب هؤلاء حتى وصلت المنظومة القيمية إلى ما هي عليه اليوم لا يتشبث بالأمانة على الأموال والحقوق إلا بقية من الغرباء.

هؤلاء الذين احتفظوا بمنظومة قيمية شامخة, لا ينحتها التسيب, ولا يهدها الإغراء, ولا تسحقها الشفقة على الذات, منهم من قضى نحبه فله ممن حرم الظلم على نفسه ما زرع وزيادة, وله علينا أن نجعله لأبنائنا جميعا القدوة التي أراد أن يكون لأبنائه. ومنهم من لا يزال بيننا شامخا لا ينحني للعصف تعرفهم الناس في الإدارة والمؤسسات العمومية والخصوصية وهم يصلحون ببرهان التجربة أن يكونوا المرتكز البشري للمانع العدلي الشامل الذي يتوجب تصميمه وإحكامه.

 

د. شماد ولد مليل نافع

اثنين, 01/02/2021 - 07:10