المواضيع الحساسة

في موريتانيا كانت هناك، في الماضي البعيد، جرائد حرة، أما الأن فبفضل الجهود الجبارة للقيادة الوطنية -سدد الله خطاها..أمين- لم يبقى من حرية الصحافة سوى أوراق رديئة الطباعة أولاً، ثم زادها اتساخاً أيضاً عبثُ أيدي القائمين على الرقابة في وزارة الداخلية الذين يتفنون في البحث فيها عن سبب للمصادرة، كما لو كانوا يبحثون عن ذئب في حظيرة حملان.

 

لقد بدأنا مغامرة الصحافة هذه في نهاية سنة 1991 وخُيّل إلينا آنذاك أننا اكتشفنا "النار المقدسة" وقطعنا على أنفسنا وعداً بأن نطرد بعيداً "أغوال" الجهالة والغباء وأن نبددّ بضوئها ظلمات الليّالي ونقضي إلى الأبد على وحوش الدناءة والهوان.

عندما اكتشفنا النار لم نكن آنذاك نعرفُ ما نقول، فكنا نقول كل شيء وأي شيء، كان المهم عندنا أن نتكلم، فبعد سنوات من الصمت كان الأهم أن نقنع أنفسنا بأننا مازلنا نعرفُ الكلام، كنا مبهورين باكتشافنا للنار فأوقدنا حرائق كبيرة وجميلة ورقصنا على ضوئها، لنطهر أنفسنا من عفاريت الليل والصمت لندخل الدفئ إلى قلوبنا، إلّا أن ما كنا مبهورين به، لم يكن في الواقع إلا ناراً في الهشيم، لا تفيد كثيراً، ولم نهتدي في ضوئها إلا على صيد زهيد. 

أما الوحوش الكبيرة فقد بقيت كامنة في جحورها وعندما أحست بأنها على وشكِ أن تحاصر برزت منها، وهكذا تحولنا نحنُ الصيادين إلى فريسة، وانقلب السحر على الساحر، وبدأت مرحلة التطبيع، فلم تمر سنتنان حتى أصبحنا في مرحلة ما بعد الديمقراطية وأصبحت حرية الصحافة تحت المراقبة.

وحتى نكون عند القارئ فكرة عن التضييق التدريجي لمجال حرية الصحافة، سأسردُ له هنا لائحة بالواضيع "المحظورة" التي يمنع الحديث عنها: ففي مايو 1994 تم تدشين "التقنية" الجديدة عندما صودرت جريدة "القلم" بحجة أنها تحدثت عن "رئيس دولة أجنبية" بعبارات قيل بأنها غير لائقة، وهكذا من ذلك الوقت مازال "رئيس دولة أجنبية" يمارس القمع، هو وجيش من "المواضيع الحساسة" وماتزال كتائبه تزداد يوماً بعد يوم. 

 

كان أولّ اللاحقين بهم "الجيش" وبعده مباشرة كما هو طبيعي "رئيس الجمهورية" ثم "الأئمة" ثم "البعثات الديبلوماسية"، ثم "افلام"، ثم ملف حقوق الإنسان المتعلق بأحداث 1989، ثم بعد ذلك أرتالاً من الدولة الشقيقة والصديقة والمجاورة كتونس في البداية، ثم الجزائر، والسعودية، والصين وإسبانيا و المغرب وفرنسا والمانيا والكويت والإمارات والسنيغال ومالي، ثم التحقت بهم الولايات المتحدة الأمريكية عندما عينت المسر سمبراس سفيرة في انواكشوط، وجاء دور اسرائيل في نهاية العام 1995، كذلك لم يكن من المحبب الحديث عن أزمة الخليج، وعن المتمردين التاميل أو الكورسكيين، أو الباسك أو البامبو، أو عن الأحياء الساخنة في نيويورك ولندن وبرلين، ومن ججانب أخر كان يمكننا الحديثُ عن "تاسمانيا" و "صامو" الغربية أما الشرقية فلست متأكداً، وعن التقاط الصمغ العربي في السودان، وعن الفن الأندلسي في ما بين القرنين السابع والقرن 15 الملاديين دون الخوض طبعاً في الإضطرابات السياسية أنذاك، وأخر المواضيع التي تحظر حظراً باتاً هو موضوع "العبودية" فرسمياً "هذه" غير موجودة بالتالي بمنع تناوها أو القول بأنــ "هـــا" غير موجودة. 

 

ولاشكّ أنك، عزيزي القارئ سمعت ما يقال عن سياسية النعامة (أوضح هنا للسادة القائمين على الرقابة في وزارة الداخلية أن النعامة طائر وليست إحدى الدول الشقيقة والصديقة التي نخافُ منها) إذن أيها القارئ ما تؤدي إليه سياسية النعامة.

إلا أن هناك أشياء كثيرة في موريتانيا يمكنُ الحديثُ عنها ويكفي المرء ليتأكد من ذلك أن يتصفح جريدة الشعب أو أن يشاهد التلفزة الوطنية الرائعة، فاستقبالات الرئيس خبر أول دائم ومضمون، فكل يوم تشرق فيه الشمس يستقبل الرئيس العشرات من المتفانين والمهمين جداً، لمدة ربع ساعة، ولم نعرف أبداً مالذي يقولونه بالضبط للرئيس، لاشكّ أن كل واحد منهم يدلي "بتصريح للصحافة الوطنية" إلا أن التصريح إما عن "خزعبلات" التعاون الثنائي أو "سفسطات" "العلاقات الأخوية"، أن المبعوث الذي يتم استقباله هو طائر من نوع خاص يتساقط ريشه عند كل طيران وعند عودته يبيض تقرير "لا يصلح حتى للسلق".

كنتُ أتمنى دائماً أن يخرج إلينا أحد هؤلاء المبعوثين بعد الإستقبال مباشرة، ويقول لنا أنه تحدث مع رئيس الجمهورية في أمور أخرى غير التعاون الثنائي أو إطار العلاقات الأخوية، أو يدلي لنا لتصريح من قبيل :

"أه أيها الأصدقاء، هل تريدون معرفة ما قلته للرئيس، إذن اهبوا إليه فهو رئيسكم واسألوه أنتم، وأنا لم اقرأ الرسالة ولست سوى مبعوث، أو نوع من الحمام الزاجل إذا شئتم، وأحمل الرسائل ولا أفتحها في الطريق، فذلك لا يجوز، إذا انتهى الأمر، سامحوني فأنا جائع، لم أكل منذ الصباح، أما إذا كنتم مصرين على ما قلته للرئيس، فقد قلت له أنه حان الوقت لكي تسدد موريتانيا ديونها لنا فنحن محتاجون لهذه النقود، ولم يكن الرئيس مبسوطاً من ذلك، وكذلك الحال بالنسبة لرئيسنا، لكن هذا لا يعنيني في شيء، وداعاً وداعاً". 

وكذلك بالإضافة إلى الاستقبالات فهناك معين لا ينضب، هو التدشينات التي يجريها الوزراء، فكل التدشينات التي يجريها الوزراء لها نفس الشكل: وزير أشعث في حالة رثة متهدل ومتدلي الأذنين يقوم بقطع شريط ظلماً وعدواناً، وبعد ذلك يدوي التصفيق وكأنه قام ببطولة فريدة أو أولى من نوعها، لكن متى كان قطع الشريط يستحق التصفيق؟ وبعد ذلك يغادر الوزير و"الوفد المرافق له" المكان ويخلفون وراءهم الكثير من قصاصات الورق وأعقاب السجائر، وأعواد الثقاب و مناديل "كلينكس" الملوثة، والكثير من الأوساخ المجهولة الهوية والتي لن يأتي أحد لكنسها، فكم هي موسخة هذه التدشينات، أُسائل نفسي دائماً أين الوزراء هذه الكمية من القمامات والأوساخ؟

 

وهكذا هي الصحافة الموريتانية عندما لم يعد بإمكانها الحديث عن المواضيع "الحساسة" أصبح محكوما عليها بالحديث عن الأشياء غير المحسوسة. مسكينة أنت أيتها "المواضيع الحساسة" كم جريمة ارتكبتوها باسمك، لكن لنتركها جانبا ونتحدث عن أخبار البلد. 

في 8 من مارس احتفلنا بعيد الثامن من مارس أو عيد المرأة، وهناك جانب إيجابي في هذه المسألة، هو أن الموريتانيين يحتفلون دائماً بالثامن من مارس، وهذا جيد، لأنه كان بالإمكان أن يحتفلوا به في 12 دجمبر مثلاً.

وحتى أنه جرت محاولة للإحتفال به في 5 من مارس، ومن مخلفات هذا "الموضوع الحساس" حديقة تققع قبالة المتحف الوطني، حديقة لا فائدة منها ولا قيمة، فحتى الحمير لا تأتي لتستظل بأشجارها، هذه الحديقة تقع على بعد أمتار من ساحة منظمة استثمار نهر السنيغال التي تقع بدورها قبالة البلدية، هذه البلدية التي تم بناء مقرها على أكوام من القمامة، بين البلدية والمتحف، توجد بناية مبيضة دون أن تكون بيضاء، ومصفرة دون أن تكون صفراء، وخضراء دون أن يتأتى لها ذلك أو يبدو عليها، مزعجة في الصباح ومُكفهرة في المساء، باهتة قميئة دنيئة، هذا "الشيء" يسمونه الجمعية الوطنية فكان الأولى بهم أن لا يطلقوا عليها اسماً على الإطلاق.

في هذه المناسبة، 8 من مارس دائماً، درجت النساء على القيام بطقوس تتمثل في عرض تماثيل جمال خشبية وهوادج صغيرة، ووسائد جلدية تلتصق زخارفها بمن قام بالإقتراب منها، ولإعطاء قيمة أكبر لهذه المناسبة يجب من وجهة نظري تخصيص عيد للرجال يكون مثلاً في 12 من دجمبر يقوم فيه الرجال بعرض منتجات صغيرة، وبسيطة تخصهم، مثل أمواس حلاقة تقليدية، وآلات ختان أوتوماتيكية، كرات قدم مكعبة، أمشاط للعناية بالشنب. 

 

الموضوع الأخر المهم هوّ التعديلات الوزارية، هذه التعديلات التي أصبحت نوعاً من الدواء الذي يجب ترشيده لأنه يفقد فعاليته كلما استعمل، كما أنها أصبحت رياضة وطنية تمارس من وقت لأخر.

لكن مالذي يفيده تعديل وزير واحلال وزير محل أخر؟ فالتغييرات الأخيرة أطاحت بوزير الصيد ووزير النساء (سيستعملون هذا المصطلح "شؤون") وحل محلهما وزير للصيد ووزيرا للنساء، كما لو كان من اللازم استبدال فوري لوزير مطاح به، ولو كنت أنا الوزير لجربت خلطات من قبيل وزير الصيد والنساء ووزير العدالة والمياه، ووزير الخارجية والداخلية، ووزير الزراعة والإتصال، اليست فضفاضة كوزارة الداخلية و البريد والمواصلات، ووزير السياحة والصناعة التقليدية، إلى ذلك من الخلطات المعهودة؟

 

وعلى ذكر الوزراء، أورد هنا قصة "تيس" محترم، رابط الجأش تنبعثُ منه روائح شديدة، وكان حارس المدرسة التي ندرس فيها يربطه في الساحة التي كنا نأتيها لمراجعة دروسنا في أوقات الراحة، وبعد ستة أشهر من ربطه هناك حصل لدينا اقتناع بأن "التيس" أصبح أذكى كثيراً مما كان عند الإفتتاح، أو أنه استفاد كثيراً من دروسنا، لكن للأسف كنا في السنة الثالثة، ومهما يكن "التيس" ذكيا فأنه لن يتجاوز كثيراً بدروسنا البدائية في الجغرافيا أو التاريخ أو الحساب، لكن من الأكيد أن "التيس" بسماعه الدائم إلينا أصبح ذكيا وأصبح يحسن الإصغاء، مع أنهم معاشر "التيوس" عادة قليلوا الإنتباه. 

وبناء عليه، إنا لو ربطنا وزرائنا في أسوار أمام مكاتبهم وأجبرناهم على الإستماع إلى المواطنين فإننا سنجعلهم بذلك أكثر ذكاءً، ومن يدري فقد يتعلمون العد إلى ما فوق الرقم 12.

 

طبعاً من حقنا أن نحلم فليس ذلك "موضوعا حساسا" بعد. 

 

المصدر: حبيب ولد محفوظ، موريتانيد، ترجمة: عبد الرحمن ولد عبد الله، القلم، العدد 239، بتاريخ 18 أغسطس 2003

سبت, 30/01/2021 - 10:57