المحفوظ بن بيّه .. قراءة جديدة في فتوى قديمة

قدم مركز القاهرة للدراسات الإستراتيجية دراسة واعية لكاتب تائق إلى الحقيقة هو الشيخ المحفوظ بن بيّه ، ليتناول قضية قديمة الأمس، حديثة اليوم عن فتوى "ماردين" الشهيرة التي أفتاها ابن تيمية في القرن السابع الهجري إبان الوجود الغاشم للمغول في الشام .

وقد أحسن الكاتب الأستاذ أحمد المسلماني رئيس مركز القاهرة للدراسات الإستراتيجية اختيار هذه الدراسة ليقدمها بوعي شديد، وبشكل جديد، لتكون من بواكير الأسفار الواعية لفئات ضلت بغفلة، وأخرى متشوقة في حاجة إلى القراءة الجديدة لموضوع الفتوى وأثرها .

و الشيخ المحفوظ بن بيّه عاش في هذه الدراسة بعقلية باحث عاشق للتجديد والاجتهاد، وبقلم أديب برع في مزج الأدب بالفقه في قالب نقدي، وما زاغ منه القلم، وما تجاوز في حق أحد من الذين أجرموا قديمًا وجروا على الأمة ويلات التخلف والجمود.. فكان مؤلفه سفرًا فريدًا في الموضوعية، فلم نلمح منه سوى العفة والأدب في اختيار المصطلحات العلمية الفقهية، ولم ينس التأريخ لمرحلة يقظته الفكرية والثقافية وهو بمصر يتجول في مكتباتها الشعبية في سوق الأزبكية الشهير.

يتجول وهو حامل لهموم أمته متذكرًا أحداث مقتل الرئيس السادات على يد فئة ضلت وأضلت.. ويفرض أسئلة مؤلمة.. هل مات السادات هدرًا على يد صغار في السن والفقه، والفكر والثقافة؟! هل استفرغ هؤلاء الأقزام جهدًا في فقه الأحكام الشرعية؟! حتى يسيلوا الدماء بهذه السهولة والاستهتار؟!

وأعاد قراءة كتيب محمد عبدالسلام فرج " الفريضة الغائبة " ليعرضه على الفتوى الماردينية الصحيحة!، حيث كشف مؤتمر "ماردين" الشهير الذي أقيم في مارس 2010، أن في نص الفتوى كلمة طبعت على سبيل الخطأ، فقد قرأها الإرهابيون "يُقاتل.." والصواب "يُعامل"، وهذا المؤتمر الذي دعا إليه العالم الفقيه الشيخ عبدالله بن بيّه رئيس مجلس الإمارات للإفتاء الشرعي، ليؤكد براءة ابن تيمية من هؤلاء الذين استندوا إلى فتواه، وقتلوا مَنْ قتلوا وفي مخيلتهم أنهم يحسنون صنعًا.

وجهد الابن المحفوظ عبدالله بن بيّه في بيان جهد والده في عقد المؤتمر، ثم بيان حيثيات التحقيق العلمي بمراجعة فتاوى ابن تيمية المطبوعة على المخطوطة كشف لنا خطورة نشر العديد من كتب التراث دون تحقيق..

وهو عمل علمي لازم، فالحمقى ينقلون دون دراية، ويرتكبون جرائم دموية وفكرية دون وعي أو إدراك أو حتى دراسة لعواقب الأعمال والأفعال الموتورة..، وبين الأستاذ المحفوظ بن بيّه سوء فكر "نبيل البرعي" أول من زرع بذور الإرهاب والعنف الدعوي الدموي باسم الإسلام في العصر الحديث في ستينيات القرن الماضي.

والمحفوظ.. قد ألقى بالمسئولية على أكتاف ذوي العقول.. فلربما تاهوا في بيان فقه الخمول والقعود..، فغياب العاملين في مجال البحث العلمي من الواقع جر على الأمة سنواتٍ قاحلة مفعمة بسواد النتائج، وفداحة العقبى..

إن قراءة واقع الأمة وتاريخها في رصد المكتبة الإسلامية التراثية، وحين نحصي ما كُتب فيها نجد أن أكثرها في تصنيف "الفقه" على حساب علوم وفنون أخرى، في حين قل عدد مصنفات الأخلاق والتربية والفكر بالمقارنة بعلوم شرعية من المتروك.. لذا فإن يتامى المعارف نقلوا دون وعي أو إدراك.

والفقه دون دراية علم "أصول الفقه" كيان مبتور، مبتوت الصلة بما يحييه، لذا فإن جريمة المهندس محمد عبدالسلام فرج جريمة مركبة، تجمع بين ضحالة العلم، وفقر الفهم، وموت الوعي، ولو أن هذا المهندس وهو شبه منحرف قد التقى بمن يعيد إليه صوابه لما انحرف وتطرف، وأحسب لو أنه التفت لما درس من علوم الهندسة وتقدم فيها لأفاد أمته المنكوبة بجهل أمثاله.

لذلك فإن تعبير الفقيه "الوالد" عبدالله بن بيّه أن الأمة "صارت.. تسجل الأهداف، لكن على نفسها" تعبير يقظ على أمة قدمت لكيد الأعداء جهلًا من الأبناء..، وبدلًا من إحياء موات الحضارة، وجهوا جهدهم لإماتة أمتهم.. والأمة منكوبة بهم.

ولم يخف المحفوظ.. مشاعره الحزينة على التخلف الحضاري للأمة، فبين مواطن التراجع الحضاري المؤلمة، وتطرق لها بموضوعية وحياد.. ونقل حزن والده الفقيه عبدالله بن بيّه على ما يلقاه الإسلام من تهمة "صدام الحضارات"، فكل من تناول هذا الموضوع ألقى التهمة على الإسلام!

لذلك كان جهد الرجل الكبير في إلقاء الضوء على مفهوم دار الحرب، وذلك من خلال إعادة قراءة فتوى ابن تيمية ، فالمتوارث من هذا الفقه أن البلاد (الأماكن والبلدان) تنقسم من حيث العلاقات إلى دار سلام وإسلام، ودار حرب وقتال.. لكن في نظر ابن تيمية اجتهاد جديد أحاط بالواقع علمًا ودراية، فارتأى في ماردين وغيرها أكثرية مسلمة وحكومة دخلت الإسلام - ربما شكلًا - أنها دار مركبة.. وكأن ابن تيمية قد سمح بالاجتهاد وفق الأمر الواقع المعاصر لعهده وعصره.

لذلك ارتأى الفقيه عبدالله بن بيّه أن العالم اتخذ سبيلًا آخر لحسم الخلافات تكمن في المواثيق والعهود، والاتفاقيات الدولية، قد رسمت حدودًا غير الحدود، ودمجت شعوبًا في شعوب، وامتزجت كيانات في كيانات، فعَلَامَ يحيا المغيبون في بعض الاجتهادات البالية وقد تراكمت عليها غبارات القرون؟ وتبدلت فيها أحوال غير الأحوال؟ لذلك يرى ضرورة إعادة النظر في مصطلح دار الإسلام ودار الحرب.

وهنا لا ينفصل الفقه السياسي، عن السياق التاريخي، عن الواقع الجغرافي، فالذي يفتي والأمة كيان سياسي موحد في شكل الخلافة، حتمًا تتغير فتواه والكيانات السياسية وحدات منفصلة تحكمها عادات وثقافات وجغرافيات حدودية مختلفة.. فضلًا عن واقع متغير، ومستجدات قائمة.

واللافت في هذه الدراسة أن مفهوم الجهاد العسكري لا يقوم به فرادى، بحيث يقوم به فرد يرفع سلاحًا لينال من آخرين من تلقاء نفسه، بل هو قرار دولة يقرر حاكمها مع أهل الحل والعقد فيها القيام بعملٍ كبير مثل ذلك.

والاجتهاد في فقه الواقع أصبح فرض كفاية يقوم به علماء الأمة النابهون كما قام به ابن تيمية في القرن السابع الهجري، حيث بين الفقيه عبدالله بن بيّه - بعد بيان الصواب في الفتوى الماردينية- أن ابن تيمية اجتهد والمسلم يُعامل بما يستحق إن أحسن أو أساء.

وهنا لابد من بيان آليات الاجتهاد فيما جد واستجد من علاقات الدول، فالحروب وفق قانون البغي وزرع الفتن مرفوضة محرمة بنص الشريعة، وموافقة القوانين الدولية، والحروب لإرساء العدل ومنع البغي والعدوان مشروعة إن شُلت مساعي الصلح وعقد الاتفاقيات، وقديمًا كتب محمد بن الحسن الشيباني ت 189 هـ كتاب السير الكبير يبين فيه أسباب الاقتتال ودواعيه وآثاره، والعهود والمواثيق وأمور الأسرى وتصنيف الجهاد، وليس فيها عدوان موتورٍ من فرد على هيكل أساس دولته.

والكاتب المحفوظ بن بيّه لم يبلغ الحرج وهو يشرح مفهوم الولاء والبراء الذي يمثل فهمه عقيدة عند الإرهابيين، يشطرون بها عقائد الناس شطرًا ممزقًا.. دون فهم لقاعدة العذر بالجهل، لقد واجه الكاتب هذه القعدة بعرض رؤية والده الفقيه وهي رؤية اجتهادية تأصيلية شرعية يدركها المتخصصون..

وتبقى قضية الإفتاء.. وهي مهنة بعض العاطلين المتنطعين على الفتيا، والذين يهوون الظهور على المجتمعات قبل النضوج، وبلوغ الحُلم الفكري..، وهنا تجلى في عرض المحفوظ بن بيّه خاطرة بيان نوع الفتوى.. ولا بد حينئذ من بيان الفرق الكبير بين المفتي من حيث كونه ناقلا للفتوى من كتب وآراء السابقين الغابرين، وبين المفتي الذي يجتهد ويجري القياس والاستدلالات الواعية ثم يبين حكم الشرع وفق المستجدات دون الإخلال بالأصول ومقاصد الشريعة..

وقديمًا كتب ابن الصلاح الشهرزوري ت 643هـ، كتابه "أدب الفتوى وشروط المفتي وصفة المستفتى وأحكامه"، وضع فيه ضوابط مرعبة لمن توسوس له نفسه أن يُفتي، ولم يخلد بفكره أن نكبة الأمة ستكون من بعض الأقزام الذين يتلعثمون في قراءة سطرين، ويعرقون في إعراب كلمة.

.................................................................

أ د محمد خالد القعيد 

أستاذ دكتور بكلية الدراسات الإنسانية - جامعة الأزهر

 

أربعاء, 20/01/2021 - 11:39