أرحلت حقا أيها العربي الأخير؟

يحمل همً العرب على كتفيه ، يتأبط صبر أيوب ، وحزن يعقوب ، ويتسلى بجرعات قليلة من تبغ إفريدريك الكبير.

يقدس البعث ، ويتألم لآهات المظلومين وأنين الضعفاء ، عقله وفكره وطموحه أكبر من أن تستوعبهم الدنيا في زمن الأوبئة الفكرية ، والرياء ، والشموخ الزائف والكبرياء الكاذب .

حين إلتقيته قبل قرابة عقدين من الزمن –رغم حداثة سني حينها- آنست من محياه حزن المهموم ، وحيوية الثوري الذي صهرته التجارب والمحن والسجون والعذابات.

يخطو على الأرض برفق زائد كمن يمشي على خطى نبي كريم ، يتبسم للصديق والعدو ، يتجرع الألم كالشاي ، لا يجرح ولا يقسو ، ولكنه يجيد فنا آخر؛ هو فن اللامبالاة ، وإن مشى على جرح مكلوم كان مرهما.

ثقافة موليير التي تشبع بها غض الشباب في مقتبل العمر لم تمنع قلبه الشجي من أن يصادف هوى البعث غضا طريا ، فكان في تصوفه الفكري ونضجه السياسي العقدي والحزبي كالقائد ميشيل عفلق ، يحترق في صمت ، ويتألم بكبرياء ، يصاحب الجميع بلطف وتواضع جم ، سلوكه وثقافته المدنية تكاد تكون نمطا خاصا لم تكتشفه البشرية بعد .

بأدب رفيع وتواضع جم يشق طريقه دون مجاملة في الحق ، يحدثك كقديس أو راهب من زمن يسوع المسيح ، يحكي عن الأمم والشعوب والحضارات ، وكأنه شاهد عيان.

تشرفت حينا من الدهر إبان فترة آخر انقلاب عرفته موريتانيا بمنادمته والعملاقين إممد ولد أحمد والتراد ولد سيدي أطال الله في أعمارهما.

الأستاذ إممد هالة من التواضع والبساطة والاستقامة تمشي على قدمين، ومازلت متحيرا كيف أنجبته هذه الأرض.

الأستاذ التراد كاتب وخطيب ومنظر ، ومتصوف في الفلسفة الاشتراكية الثقافية والعلمية إلى حد يخيل إلي أحيانا أنه قد تلقى مبادئها مشافهة من قادتها المؤسسين.

أما الراحل محمد يحظيه ولد إبريد الليل فكان أمة وحده ، أحاديثه ولين جانبه في المجالس الخاصة أقرب لأحاديث رعاة الإبل في صحاري تيرس ، ولكن فكره ثري ونظرته ثاقبة وحدسه حدس خارق .

إن كتاباته ومقالاته وأفكاره التي خلفها اليوم في الساحة الموريتانية والعربية تمثل نمطا قائما بحد ذاته ، سبكا وأسلوبا وثراء وإستشرافا لآفاق المستقبل الذي كان يقرؤه دون حاجة لضاربات الرمل ، أو وشاة المخبرين. 

الأستاذ الراحل يملك منطقا ساحرا ، حين يحدثك بروحه الشفافة ، وشخصيته الآسرة تقع أسير تلك الطلاسم والتعويذات التي يرددها ترانيم من قيثارة تجمع النوادر والطرائف والحكايات والتاريخ والقصص والعبر ، كيف يجتمع كل ذلك ؟

لست أدري لكنه الأستاذ محمد يحظيه! 

 

رحل في صمت كالعظماء ، بعد أن عاش على هامش الدنيا ردحا من الزمن جنديا مجهولا للعرب ، يحمل همنا جميعا من المحيط إلى الخليج ، يعاني الإغتراب عنا ويتجرع مرارة هزائمنا وشتاتنا وضياع أوطاننا .

لكنك دوما ترى على محياه إشراقة أمل.

لعلي لو تمثلت البيت الشهير الذي رُثي به سيد أهل الوبر الصحابي الجليل قيس بن عاصم التميمي رضي الله عنه لكان أجدى من كل ما كتبت:

وماكان قيس هلكه هلك واحد

ولكنه بنيــــــان قوم تهدمــــا

 

فلترقد روحك بسلام ياأستاذنا الكبير أما أنا فمازلت من هول الصدمة أتساءل:

أرحلت حقا أيها العربي الأخير؟!

 

                                                         محمد محمود إسلم عبد الله

خميس, 14/01/2021 - 00:10