أعمال البناء في مدينة نواكشوط والمخاطر البيئية

شهدت السنوات الأخيرة نشاطا كبيرا لأعمال البناء والإنشاءات في مدينة نواكشوط , حيث تضاعفت مساحتها العمرانية نتيجة عوامل كثيرة , و كان من الملاحظ امتداد المدينة وتوسعها بشكل أفقي , حيث لم تعرف الإمتداد العمودي إلا مؤخرا و في حالات محدودة , و مع التوسع الأفقي و فوضى البناء وعدم خضوعها في الغالب للمعايير العمرانية و البيئية المطلوبة , فإن مخاطر عديدة تنجم عن العمران والتعمير بشكل تلقائي , إلا أن الأمر زاد سوءا نتيجة لغياب التنسيق بين مختلف الأطراف , ونتيجة عقليات المواطنين التي لا تساعد في الغالب حتى ولو كانت القوانين واللوائح التنظيمية موجودة , فما هي مظاهر التدهور الحاصل نتيجة أعمال البناء في نواكشوط ؟ وما هي المخاطر البيئية التي صاحبت هذا العمران ؟ وكيف يمكن تقديم الحلول ؟

 

فوضى البناء :

لقد عرفت مدينة نواكشوط فوضى لا مثيل لها منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الآن , خاصة بعد ما ضرب الجفاف المناطق الداخلية وقضى على أعداد كبيرة من المواشي , وضرب البنى الإقتصادية لسكان الريف , فزحف هؤلاء باتجاه العاصمة الفتية والتي لم يكن المسؤولون فيها يخططون لمثل هذا الزحف ولا يضعونه في الإعتبار , مما نتج عنه تكدس أعداد كبيرة من السكان في أحياء شعبية عرفت بمسميات عديدة ( الكبات و الكزرات ) , لكن الوضع لم يقتصر على حالة استثنائية كهذه بل أصبح المفهوم الجديد ( الكزرة ) وسيلة للحصول على القطع الأرضية , و المتاجرة بها في أحيان كثيرة مما زاد الطين بلة , فلم تنته هذه المشكلة ولم تستطع الدولة مواجهة الحاجات المتزايدة للقطع الأرضية ولم تستطع وقف توزيعها إلا ربما مؤخرا مما نتج عنه استمرار توسع المدينة أفقيا , ولم تنقطع أعمال البناء في أي جزء من المدينة تاركة وراءها تلوثا خطيرا لا يقتصر على تلوث الهواء والتلوث الكيميائي فقط بل نتج عن ذلك تلوث بصري ومظاهر أخرى عديدة .

إن العقليات التي لا تتماشى مع المدنية الحديثة هي التي تجعل البعض يقوم بأعمال البناء دون ترخيص ودون تخطيط ولا إشراف من المعنيين , ففي اللحظة التي يقرر فيها الشخص بناء منزل أو حائط ينفذ الأمر مباشرة , ويتفاجأ الجميع بالشاحنات المحملة بالمحار والأتربة و أخرى محملة بالإسمنت , و لتغلق كل الطرق المؤدية إلى مكان البناء لا يهم , و توضع أسلاك الحديد في ما تبقى من الشارع أو الشوارع المجاورة و ليبحث الجيران عن طرق يسلكونها للوصول إلى منازلهم حتى انتهاء البناء و لا أحد يعترض , وعند انتهاء الأعمال يكون التلوث قد بلغ مداه , وتنتشر بقايا الحديد و الإسمنت وغير ذلك , ولا يتذكر أحد أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة , و أن أعلى الإيمان قول لا إله إلا الله , و أدناه إماطة الأذى عن الطريق ...

و خلفت العقود الماضية من الفوضى ونهب الرمال من الحاجز الرملي المحاذي للمحيط آثارا كارثية على البيئة .

 

التدهور البيئي في نواكشوط :

عرفت السنوات الأولى من قيام مدينة نواكشوط والعقود التالية استغلالا كبيرا ونزفا لرمال الحاجز الرملي المحاذي للمحيط والذي كان يحمي المدينة من المياه الرهيبة إن هي تقدمت باتجاه الجنوب , فالمدينة تقع تحت مستوى سطح البحر ب 50 سنتيمترا حسب بعض الخبراء , و الذين يقدرون تقدم المياه باتجاه المدينة الآن ب25 مترا سنويا , و أصبحت توجد ثغرات كبيرة على امتداد الحاجز الرملي مما يهدد المدينة بالغرق , هذه المدينة التي أنشئت على مساحة غير صالحة أصلا للبناء , مما جعلها تعاني من وجود مياه أخرى في أحياء كثيرة تطرح مشاكل بيئية جديدة .

فمدينة نواكشوط حسب الخبير البيئي الدولي أحمد ولد السنهوري تقع فوق بحيرة جوفية مالحة منسوبها آخذ في الإرتفاع لغياب شبكة صرف صحي , كما تحول ملوحتها دون صلاحية أراضيها للبناء . ( موقع العلوم والتنمية )

ومع أن بعض المشاريع تحاول سد هذه الثغرات , إلا أن التهديد ما زال قائما كما تقول العديد من الدراسات في هذا الشأن , حيث ترجع أسباب الغرق المتوقع لمدينة نواكشوط إلى عوامل عالمية مثل الإحتباس الحراري , وذوبان الثلوج القطبية التي تؤدي إلى زيادة منسوب البحار والمحيطات مما يهدد كل المناطق الساحلية المنخفضة والتي تعتبر نواكشوط أكثرها عرضة للخطر ...

 

صناعة الإسمنت :

نتج عن ازدهار مجال البناء والتعمير فيما يبدو انتشار مصانع الإسمنت , وهو ما يسبب أشكالا من التلوث والمخاطر البيئية المختلفة , فصناعة الإسمنت معروف عنها أنها صناعة ضارة بالبيئة  وبصحة الإنسان و كل كائن حي , رغم أنها – كما يقول منتدى الفيزياء التعليمي – صناعة هامة لتطوير مناحي الحياة المختلفة , كونها صناعة استراتيجية ضرورية لا يمكن الإستغناء عنها , علما بأن أضرارها أكثر من منافعها , بدء من أضرارها البالغة القسوة على صحة الإنسان و على الزراعة و الكائنات الحية الأخرى , وعلى قشرة الأرض المجاورة لتلك الصناعات , حيث يتراكم الغبار المحمل بالغازات الملوثة عند خروجه من فوهات مداخن المصانع ليستقر على قشرة الأرض فيسبب كارثة بيئية .

و يرى البعض أن انتشار مصانع الإسمنت في المنطقة العربية وزيادة الإستثمارات في هذه الصناعة على الرغم من أن الدول العربية تزخر بها , يعود إلى أن الدول المتقدمة تعمل على التخلص من هذه الصناعة بشكل نهائي , حيث بدأت تتراجع عن إنشاء مصانع جديدة للإسمنت على أراضيها وعملت على تصدير مصانعها القائمة إلى بعض الدول النامية للتخلص منها ومن أضرارها .

ولم يكن الإسمنت هو الملوث الوحيد نتيجة أعمال البناء والعمران , فهناك المزيد من الملوثات الأخرى .

رأي الخبراء الدوليين :

لقد أشرنا في حلقات سابقة إلى مخاطر التلوث الهوائي , و تحدثنا عن بعض      الملوثات , لكن يبدو أن الدراسات لا تتوقف و المخاطر لا تنتهي وكذلك حديث المعنيين على المستوى الدولي , فقد أجمعوا على إمكانية تلافى الوضع إن أراد المسؤولون ذلك , وقاموا بوضع السياسات الملائمة والتخطيط السليم .

تقول بولا كاباليرو المدير الأول لمجموعة الممارسات العالمية بالبنك الدولي المعنية بالبيئة و الموارد الطبيعية :

إن تحسين نوعية الهواء يمكن تحقيقه في مواجهة الزحف العمراني , حين يرغب الزعماء الإستباقيون في تطبيق السياسات و الإستثمارات الصحيحة ... فأي أمة يمكن أن يكون لديها هواء نظيف و رئة سليمة علاوة على المكاسب الإقتصادية للزحف العمراني . ( موقع البنك الدولي على الإنترنت )

و تقول الدكتورة ماريانيرا مديرة إدارة الصحة العمومية و المحددات الإجتماعية و البيئية للصحة بمنظمة الصحة العالمية :

إن العديد من المدن الكبرى في العالم يتجاوز المستويات الإرشادية للمنظمة فيما يتعلق بنوعية الهواء بأكثر من 5 مرات , مما يمثل خطرا رئيسيا على صحة الناس , ونحن نشهد تسارعا في الإهتمام السياسي بهذا التحدي الصحي العام على الصعيد العالمي , وتعكس الزيادة في عدد المدن التي تسجل بيانات لتلوث الهواء التزاما بتقييم و رصد نوعية الهواء ... و قد حدثت معظم هذه الزيادة في البلدان ذات الدخل المرتفع , و لكننا نأمل في رؤية تعزيز مماثل لجهود الرصد على مستوى العالم . ( موقع منظمة الصحة العالمية على الأنترنت )

 و تقول منظمة الصحة العالمية إن افريقيا بشكل عام تعاني من نقص خطير في البيانات المتعلقة بتلوث الهواء , وتحتوي قاعدة البيانات الآن على قياسات للجسيمات PM  تتعلق بأكثر من ضعف عدد المدن في الإصدارات السابقة , لكن حددت بيانات فيما يخص 8 بلدان فقط من أصل 47 بلدا في المنطقة .

هذا يعني أن المنظمة كانت تتوفر على بيانات ل 4 دول فقط أو 3 , و بالتأكيد لم تكن من بينها موريتانيا .

إن  غياب الخبرة و الأجهزة التي تمكن من قياس التلوث و رصده يشكل خطرا حقيقيا يجب الإنتباه إليه , في وقت أصبحت الدول القريبة منا تتابع العناصر و ترصدها في كل لحظة وتقدم القياسات للمواطنين ليكونوا على بينة من الأمر في كل وقت .

لقد تعهدت الدول بقياس الغازات الأساسية الملوثة للهواء وتقديم بيانات بشأنها للمواطنين , لكن إدارة التلوث بوزارة البيئة لا تتوفر على الأجهزة والأدوات اللازمة للقياس و الرصد , كما أن وزارة الصحة وغيرها من المعنيين لا تضع هذه الأمور التي أصبحت أكثر إلحاحا في الحسبان , وهي أمور يجب أن تتغير , لكي نعرف أولا مستوى الخطر , و لتحذير المواطنين في الوقت المناسب من المستويات الخطيرة للتلوث , والأماكن الأشد خطرا لتجنبها , كما أن على الجهات المعنية الإهتمام بنشر الوعي بين المواطنين و حثهم على فهم القضايا البيئية و مخاطرها وسلوك المسلكيات الملائمة والتخلي عن التصرفات التي لم تعد مقبولة في زمن أصبح البناء الأخضر و الطاقات الخضراء المتجددة و التنمية المستدامة ... أمور إجبارية وليست ترفا .   

و قد ألزم المشرع الموريتاني قطاع البيئة بالبحث عن المعلومات البيئية و جمعها ونشرها وحث المواطنين على فهم قضايا البيئة لجعلهم يتحمسون للدفاع عنها والحفاظ عليها . ( مدونة البيئة : القانون 45\2004 )

 

محمد بن مولود

جمعة, 11/12/2020 - 13:58