من المنطقي أن نتكلم كلنا البولارية!

كان من المنطقي أن نتكلم كلنا البولارية. فأسر الفلان متعودة على قضاء نهارها كله في حينا. نساؤهم تأتين كل صباح لمقايضة اللبن والدهون بالحبوب أو بمواد كالأرز والسكر والشاي الأخضر والبسكويت، وتارة بمواد من الصناعة التقليدية «مصنوعة حصرية في حيت لعبيد» ويلتحق تارة رجال الفلانِ بنسائهم، خاصة الشباب منهم، رعاة البقر والغنم.

 

ويحدث أن يقايض هؤلاء كبشا سمينا بقالب من السكر ومائة غرام من الشاي الأخضر وكيلوغرام من البسكويت (بسكويت «وهبه» الشهيرة) وكثيرا ما يأخذون مكانا لهم في الناحية الجنوب شرقية من الخيمة. وهناك يبدأون هذرهم ولا ينهونه إلا عند غروب الشمس معانتهاء كل محصولهم من الشاي والبسكويت. وخلال مقامهم في الحي يتقاسمون الغداء مع الأسرة.

 

تتميز كل أسرة من الحي بعلاقة خاصة مع أسرة أو عدة أسر من الفلان. ويمكننا أن نذكر من بين الأسماء المعروفة أكثر من هؤلاء الفلان: أهل خيريلل، أهل جيبي سيدو، أهل اللبودي، أهل كيكي، كيكي الضخم، وركي زوجته وابنتهما الجميلة الوحيدة، الصديقة السالفة لصديقي العزيز فى ما بعد عبد الرحمن، ثم أهل بوبي، خاصة مامدل وأمه انييك المعمرة حينها مائة سنة والتي وهبنا اسمها لقريبة لنا، فاطمة بنت إسلمو، وكذلك حفيدهم وابنهم كبات.. كبات وعالي سينو صنوان شابان من البولار يمتزج إسماهما بمنطقة بحيرة اركيز في أسعد أوقاتها. فيكاد لا يوجد سنتمتر واحد من فضاء البحيرة لم يدوساه بأقدامهما أكثر من مرة.

 

إبان أحداث 1989 لجأ كبات وعالي سينو إلى السينغال لينجوا بأرواحهما. كان ذلك بمثابة قطعهما بشكل وحشي من وسطهما الطبيعي. الخيبة والصدمة ساهما بالتأكيد في تدهور صحة كبات الذى وافاه الأجل بعد ذلك بقليل. 

 

حي الفلان يدعى «إيكمني» وهو مكون من أكواخ مجهزة بإتقان من قبل نساء الفلان. ويقترن اسمه باسم المكان النازل فيه. ولا يتوقف الفلان عن الترحال على مدار السنة في بحثهم الدؤوب عن المرعى. وفي كل مرة يعودون لنفس المكان. ويستخدم نساء الفلان قش النبات المسمى «أطكك» في صناعة أكواخ حيهن. نبتة «أطكك» اختفت نهائيا من المنطقة وحتى من البلاد بعد جفاف كاسح.

 

وكمثال حي على علاقتنا الحميمة مع فلاننا أذكر هذه القصة. في سنة 1981 كنت، رفقة بعض أصدقائي، نتمشى في شارع كبير غير معبد بمدينة نواكشوط. الشارع المذكور  يوازي الحدائق التي تفصل حي العاصمة وحي السبخة. كانت تسير باتجاهنا مجموعة من النساء، الكبيرات في السن نسبيا، والأستقراطيات المظهر، وبملامح فلانية. قبل أن يعبرن بجانبنا، كانت إحداهن تنظر إلي بتمعن دون توقف. حسبت أنها تظن أنني من سلالة الفلان. الأمر الذي يحدث لي غالبا. عندما اقتربت منا انفصلت عن صديقاتها وتوجهت إلينا. كانت تريد الحديث معي بمعزل وهو ما قبلته بالطبع.

 

كنت أستعد للرد عليها بأنني لست فلانيا «فأنا في الحقيقة تاباتو: أي بيظاني بالبولارية» بعد انتهاء التحية فاجأتني بالسؤال: «هل أنت من أولاد ديمان؟» الفلان متعودون، فى ناحية اركيز، على تسميتنا هكذا. أجبتها بـ «نعم». لقد تفاجأتُ كثيرا بكشف هويتي القبلية داخل شارع في نواكشوط. رمتني السيدة بسؤال آخر كاد يسقطني أرضا: «هل لديك قرابة بامباركه اعلينا؟» في ذهول تام أجبتها: «نعم، إنها جدة والدتي» عندما أحست باستغرابي، وفي محاولة منها لوضع حد لمعاناتي، قالت شارحة: «أنا آلتينه بنت خيريلل. كنت الصديقة الحميمة المباركه اعلينا» مضيفة أنها لم ترني أبدا، وأنها لم تعرف حتى والدتي، لأنها غادرت تلك الربوع منذ أمد بعيد، مؤكدة أنها تعرفت علي بعد أول نظرة ألقتها علي من بعيد.

 

علمت في ما بعد أنها مترجمة للبولارية في محكمة نواكشوط. وأقسم هنا أن أي شخص قص علي قصة مماثلة سأعتبره كذاب.

 

المصدر: أحمد سالم المختار شداد، قبل أن يغمر النسيان

 ترجمة: محمد فال ولد سيدي ميلة

سبت, 14/11/2020 - 10:53