رصيد الخواطر

أعرف من تجربتي المتواضعة الكثيرين من أبناء هذا البلد و من جميع الإعراق ... أعرفهم جادين و متميزين و مبدعين في مؤسساتهم و مع ذلك يعيشون الإقصاء و التهميش و ربما الإحتقار و الإذلال في بعض الأحيان و ذلك بسبب اللغة الفرنسية التي تفرض عليهم عنوة ... هم يجهلونها أو لا يعرفون منها ما يسمح لهم بالتعبير عن أنفسهمتعبيرا يعكس حقيقتهم ... تقدم لهم الاستفسارات من طرف مرؤوسيهم فيذهبون متسولين يبحثون عمن يترجم لهم محتوى ما فيها و يكتب لهم جوابها... تقدم لهم وثائق عقود العمل بالفرنسية فيوقعون عليها دون أن يفهموا ما الذي كتب عليهم فيها... يذهبون الى أحد البنوك الوطنية يطلبون سلفة فيمطرنهم بنشرات _كالتي تأتيك في علب الأدوية_ طويلة عريضة لا يفهمون ما فيها فيوقعونها بأعين مغمضة... يطلب منهم إعداد تقارير بلغة لا يفهمونها فيكون المنتج خبطٌ و تكلف يعزز فيهم عقدة الدونية مع أنهم لو كتبوا تلك التقارير بالعربية أو البولارية أو السونوكيةأو الألفية لكان تحفة فنية في التناسق و التعبير عما يحدث بالفعل... تصدر لهم مؤسساتهم مذكرات عمل بالفرنسية لا يفهمون منها شيئا ... و هنا تكون الخسارة مضاعفة... فلا العامل فهم ما تريد منه مؤسسته و لا المؤسسة جنت شيئا من مئات الصفحات التي تتكلف في طباعتها و توزيعها....

***

بالإمكان -على خطى النعامة- أن تواصل الدولة و مؤسساتها و النخبة التائهة أيضا الإصرار على إلزام الناس بالفرنسية كلغة عمل و لكن النتيجة هي -بإختصار- بقاء الدولة و المؤسسات و النخبة معهم في واد و الناس في واد آخر... هل تعتقدون أن بلدا مشتتا بهذه الطريقة يمكن أن ينهض؟.

***

دعونا نتأمل وضعية الأكثرية المغيبة و المهمشة بسبب اللغة الفرنسية ... هؤلاء أيضا مواطنون لهم حق في هذا الوطن... لهم الحق في أن يفهموا و أن يفهم عنهم... و من بين هؤلاء متعلمون كان ذنبهم أنهم دوسوا دراساتهم العليا بالإنكليزية أو الصينية أو الروسية أو التركية أو الألمانية ...أما دراستهم في المدرسة و الثانوية فكانت بالعربية.... هل سيقول لي أحدكم أن هذا الجيل عليه أن يبتلع خيبته في صمت بحجة متوهمة و هي أن الفرنسية ضرورة في العمل و للتفاهم بين أبناء هذا البلد... و هنا السؤال: التفاهم مع من؟... إذا كان ٩٥٪؜ تقريبا من المواطنين لا يفهمونها!... لعلهم يقصدون تفاهم النخبة مع نفسها (٥٪؜)...  من التضليل الفج أن يحاول أحد إيهامنا بأن الأغلبية من إخوتنا (البلار و الألف و السوننكي) يفهمون اللغة الفرنسية... أزعم أن الذين يفهمون هذه اللغة  أقل من واحد بالمائة و  لكي تتأكدوا بإمكانكم الذهاب الى القرى و المدن حيث تقطن أكثرية هؤلاء...

بمنفس المنطق _ و حتى لا تستهوينا المكاييل المختلفة _ يجب أن نتذكر وضعية مواطنين آخرين قد تلقوا تعليمهم باللغة الفرنسية و هؤلاء  لهم الحق كغيرهم أن يعبروا عن أنفسهم و بإمكانهم فعل ذلك بلغاتهم الأم  حيثما ما دعت الضرورة لذلك دون شك... لست أدري إن كان بإمكان أحدكم إقناعي بأن أحدا ما لا يستطيع التعبير عن نفسه بلغة أمه.

الذي أريد أن أصل إليه في هذه القرة هو أن المصالح العمومية  يجب أن تتوفر على ما يحتاجه المعاملات بكل اللغات الوطنية و عند الطلب توفر المعلومات الضرورية  باللغة التي تناسب كل مواطن... و هذا ليس  صعبا و لا مكلفا مع ما توفره التقنيات الحديثة من إمكانيات مع ملاحظة أن اللغة العربية  ستتكفل بأكثر من 95 بالمائة تقريبا من إحتياجات المواطنين و من جميع الأعراق في هذا البلد... و بالتدرج سيأتي اليوم الذي لن يطلب فيه أحد مادة و لا معلومة بغير اللغة العربية.

***

لست من الذين يطالبون بفرض اللغة العربية عنوة على الناس بنفس الدرجة التي لا أرى من المستساغ أن يكون إقصاؤها حلا لمشكل التفاهم المتوهم و أرى أنه من المثير للإستغراب أن يجد التفاهم المنشود تجسيدا له في لغة ليست أصلية لأحد في هذا البلد... يعني بما أننا  بلد متعدد اللغات دعونا  نتخلى عن لغاتنا كلها و نأخذ لغة "الغاو غاو" لغة للتفاهم ... هل هذا منطق مستقيم؟...

***

و السؤال هو: ما الحل؟... الحل أيسر مما يتخل الذين يرون مشكلة في كل شيء... الحل في حوار وطني موسع و هادئ ليس مع السياسيين و لا مع الذين أعمتهم إديولوجياتهم و إنما بمشاركة فاعلة من العلماء و المثقفين و الخبراء في هذا البلد و من جميع الأعراق... سيفضي هذا الحوار بالتأكيد الى حل توافقي يجعل اللغة العربية هي اللغة الرئيسية (لغة تعلم و عمل) في هذا البلد مع ضمان شراكة و حضور للغات الوطنية الأخرى خاصة في مراحل التعليم الإبتدائي... سيحتاج الأمر فترة إنتقالية تتم فيها إزاحة الفرنسية لتبقى لغة حية تدرس تماما كالإنكليزية و كغيرها من اللغات الحية التي لا يناسبنا جهلها و لا تجاهلها.

***

بقي لي أن أقول إن اللغة العربية  تمر بوعكة ليس بسبب عجزها و إنما بسبب سوء حال المسلمين عامة و سوء حال العرب خاصة... و هي و عكة عابرة بإذن الله... هذا ليس إنشاء من عندي بل هو ما تتحدث عنه بعض الدراسات العلمية الحديثة... هذه اللغة تنتشر اليوم أسرع من أية لغة أخرى في كل أنحاء المعمورة ( و تحتل المرتبة الرابعة من حيث  الإنتشار قبل الفرنسية التي تحتل المرتبة التاسعة حسب بعض التصنيفات)... و لن ينقصها إن تخلينا نحن عنها أو تخلى عنها غيرنا بل ستواصل طريقها حتى  لا يبقى بيت حجر و لا مدر إلا تكلما بغز عزيز أو بذل ذليل... و ذلك ليس لأنها لغة قوم بعينهم بل لأنها لغة الدين الذي أراد الله له أن يسود ... و الله غالب على أمره.

المسلمون على إختلاف أعراقهم سيواصلون تعلم و نشر لغة دينهم أينما وجدوا... لا ينتظرون مدارس يفتحها لهم أحد  فالكتاتيب تنتشر على طول كل شارع و الذين يعلمون مبادئ اللغة فيها لا ينتظرون راتبا و لا جزاء أو شكورا من أحد... فهل توجد لغة في هذا العالم تتمتع بمثل هذا الامتياز؟... 

***

بالنسبة للغة الفرنسية نستطيع القول دون مزايدة  إنها إحدى لغات العالم الحية لكنها لغة في تراجع مستمر فيما يتعلق بالإنتاج الحضاري تاركة الطريق للغة الإنكليزية التي تكسح مجالات الحياة الحيوية دون منازع  فهي لغة العلم و الصناعة و الفن و السياسة و السياحة بلا منازع ... 

ليست لنا و لا يجب أن تكون لدينا مشكلة مع اللغة الفرنسية و لا مع الألمانية و ما مع أية أي لغة أخرى و لكننا إذا كنا فعلا سنبحث عن لغة ثانية مفيدة فالخيار الأفضل هو الإنكليزية ... ليس ذلك  حبا و لا  إعجابا بالإنكليز بل لأن هذه اللغة ستحمل إلينا 80% مما ينتجه العالم من العلوم  و الفنون حسب تقديرات بعض الخبراء.

***

أتوقع أن يطل علي أحدهم  برأسه لينبهني بإنفعال الى أن اللغات لا ذنب لها و أن الإسلام لكل اللغات و بكل اللغات و  ربما تذهب به هذه الموجة تأسيسا على خلفيات تخصه ليحدثنا عن الشعوبية و ما الى هنالك... هذا كلام جيد و لكنه خارج السياق... نعم خارج السياق ... نحن هنا نتحدث عن أزمة مجتمع  و دولة ... عن  انفصام نكد بين المواطنين البسطاء  من ناحية و  بين إدارتهم و نخبتهم من ناحية أخرى... و لا داعي للذهاب بنا خارج هذا السياق.

الخلاصة أيها السادة هي أن الكثيرين منا لا يفهون شيئا مما يحدث في هذا البلد ... و عندما يتم تعريب الإدارة سيفهم المواطنون البسطاء  و سيفهم عنهم ... سيفهمون تفاصيل الفواتير التي تصلهم مثلا ... و سيفهمون ما تحتويه العقود التي يوقعون عليها و سيفهمون ما تريده منهم  دولتهم و مؤسساتهم و ...  و عندما يحصل ذلك سيقلع البلد على سواعد أبنائه و سيجد المفسدون و المحتالون و الأميون  أنفسهم في ورطة حقيقية لأنهم أمام مواطن  يصعب تضليله و اللعب بمصالحة لأنه يفهم ما يحدث و هنا فيما يبدون ساحة وطيس ساخن حيث تدور معركة الهوية بكل شراستها... و خير الكلام ما قل و دل.

د. محمد محمود  سيدينا

أربعاء, 11/11/2020 - 12:28