الوظيفة العمومية أم القطاع الخاص ؟!

ليس سهلا أن نتحدث عن موضوع شائك ذا أبعاد شديدة التداخل، فكل واحد منها يصب في الآخر وتقديم أي مقترح فيه يستوجب حل الإشكاليات التي يعاني منها المجال الثاني المرتبط به، إن الحديث هنا يتعلق بإشكالية تفضيل الشباب الموريتاني للتوظيف - على قلته حسب الأرقام ذات الصلة – في الوظيفة العمومية على القطاع الخاص، على الرغم من أن الدول التي تتبنى نهجا حرا في اقتصاداتها مثلنا، يقود قاطرتها التنموية القطاع الخاص بالدرجة الأولى، ولعل هناك الكثير من الأسباب التي أدت لهذا التفضيل المناقض لروح الإقتصاد سأحاول تبيانها ما استطعت وتقديم مقترحات حلول  لعلها تكون مساهمة بسيط في حل إشكالية معقدة، علما أنه ليس الا مقالا عاما لا ينحو منحى التخصص الدقيق على أن يكون ذلك في وقت لاحق. 

المتابع لظروف المسابقات التي تنظمها الدولة الموريتانية عبر اكتتاب في وزارات معنية (غالبا، المالية والداخلية، التعليم والصحة ) سيلاحظ دون شك الكم الهائل من الشباب الذين يشاركون في هذه المسابقات، قد تصل أحيانا 1000 مشارك من أجل 10 مقاعد، ومن المعروف أن الكثير منهم يفضلون وظيفة في الدولة الموريتانية مع ما توفره من امتيازات على أخرى في القطاع الخاصيفتقر صاحبها إلى الحصول على أبسط االحقوق، وهو أمر راجع لأسباب كثيرة سنتطرق لها لاحقا.

لماذا نصر على التوظيف في الوظيفة العمومية رغم عملنا في القطاع الخاص ؟

يتمتع الطبيب والمدرس وغيرهم من موظفي القطاع العمومي بامتيازات التأمين الصحي وراتب مستمر دون انقطاع في الحالة العادية، و إمكانية الاستفادة من قروض بنكية لشراء سيارة أو قطعة أرضية أو لبناء سكن، وهو ما يجعل الكثيرين رغم دخلهم المعقول في القطاع الخاص يحاولون الفرار منه إلى أي وظيفة في الدولة الموريتانية، مهما كان نوعها على أن تضمن الامتيازات سالفة الذكر، حتى أنها أصبحت ثقافة راسخة لدى المواطن الموريتاني أو الباحث عن عمل بشكل عام. حتى وإن كان هذا الفرار مشروع بحكم بحث الفرد المستمر عن كل ما هو أفضل له ولعائلته، إلا أنه يعبر بجلاء عن فشل القطاع الخاص في احتواء موظفيه أو لنقل الحفاظ عليهم لضرورة استمراريته وعدم فقدان موظفين مدربين وذوي خبرة، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ففي مجتمع تغلب عليه الفئة العمرية الشابة ويعاني من بطالة كبيرة (مُختلف على تقديرها بين 31% و 9.61% لسنة 2020 حسب تقديرات البنك الدولي) فإن القطاع الخاص لن تنقصه العمالة بأي حال من الأحوال.

لماذا تفر العمالة من القطاع الخاص ؟

رغم الامتيازات سالفة الذكر والتي توفرها الوظيفة العمومية للموظفين إلا أن ذلك لا يمكن أن يكون السبب الوحيد الذي يجعل طالبي العمل يفرون من القطاع الخاص كلما أتيحت لهم الفرصة، فهو كما أشرت يعتبر رأس قاطرة اقتصادات العالم المتقدم وله أهمية بالغة لدى المشرعين وواضعي السياسات الكلية لاقتصادات تلك الدول، فبالنظر إلى الكارثة التي لا تزال مستمرة عمدت الكثير من الدول إلى تقديم مساعدات للقطاع الخاص بالاضافة إلى اعفاءات كثيرة استفادت منها الشركات التي توظف عمالة كبيرة نوعا ما، وهذا اعتراف صريح بالدور الذي يلعبه هذا القطاع في اقتصادات تلك الدول.

أشرت إلى أن القطاع الخاص ذاته، قد لا يكون المسؤول وحده، إلا أنها مسئولية مشتركة بالفعل،بينه وبين الحكومات الموريتانية، ممثلة للقطاع العام أو باعتبارها الجهة التنفيذية المسئولة عنه، إذ لا تراقبه بالصرامة اللازمة والسهر على تطبيق القانون حتى يكون مساهما فعلا في الحد من البطالة وتوفير بدائل، بدل الاعتماد المفرط على الحكومات الموريتانية في توفير وظائف، وعموما القطاع الخاص في الغالب يفتقر إلى :

- عقود قانونية منضبطة توضح بجلاء الحقوق بمختلف أشكالها

- تأمين صحي

- تأمين اجتماعي

- مزاجية أصحاب الأعمال وقدرتهم على فصل أي موظف لا يروق لمالك الشركة أو المصنع أو المؤسسة وهو ما يتعارض مع القانون.

- النزاهة والعدالة في منح الحقوق، بل يلجئون إلى رشوة النقابات للتخلي عن مطالبها بتحسين ظروف العمال.  

 

مشاكل تأثرعلى العمالة في القطاع الخاص؟

على الرغم من أن العمالة تغادر القطاع الخاص للأسباب سالفة الذكر، إلا أنه هو أيضا يعاني من مشاكل جمة تأثر على أداءه، أبرزها ضعف التمويل " الائتمان المصرفي " ما جعل الفاعلين فيه يركزون بشكل مبالغ فيه على التجارة التي تحتاج عمالة قليلة بالاضافة إلى أنه يوظف فقط عمالة من المحيط العائلي، ولم ينجح لأن يكون مؤسسات كبيرة تمتص عمالة معتبرة، إذ أن البنوك الموريتانية تفضل غالبا تقديم قروض تجارية قصيرة الأجل على الأخرى الإستثمارية طويلة الأمد(انظر تقارير البنك المركزي)، وفي هذا السياق، ورد في تقرير البنك الدولي " موريتانيا: حاجة لإصلاحات هيكلية لدعم النمو الذي يقوده القطاع الخاص"  لسنة 2019 أنه : (...يشدد على وجه الخصوص على أن العائق الرئيسي الذي يواجه الشركات الموريتانية هو الحصول على الائتمان. لذلك، يوصي بجعل تحسين الوصول إلى الائتمان - خاصة بالنسبة للمؤسسات الصغيرة والمتوسطة - أولوية لخارطة الطريق التي ستضعها الحكومة للتحسين في هذا المجال. بالإضافة إلى ذلك، يوصي البنك الدولي بمكافحة الفساد - الذي تم تحديده باعتباره ثاني أهم عائق أمامالشركات -، وإصلاح سياسة المنافسة، (...)، وتعزيز المساواة القانونية بين الرجل والمرأة ، لتعزيز رأس المال البشري ... وجميع الإصلاحات القادرة على ضمان تنمية القطاع الخاص وخلق فرص العمل في موريتانيا.)

كما أنه لا يهتم بالاستثمار في الصناعات الخفيفة التي تحتاج عمالة أكثر مقارنة بالتجارة ، وهو ما يستوجب تدخل الجهات المعنية بوضع استيراتيجية تعمل على خلق عمالة في هذا القطاع عبر عدة طرق لعل أهمها استخدام العصى والجزرة عبر إجبار الفاعلين الخصوصيين على تطبيق جميع المعايير القانونية التي تكفل للعامل حقوق تجعله مطمئنا عل مستقبله مقابل اعتماد تنقيط تنال بموجبه أي جهة خاصة معاملة تفضيلية كلما التزمت بالقانون في التعامل مع موظفيها من خلال توفير التأمين الصحي والاجتماعي، كما أن االدولة الموريتانية ممثلة في الحكومة يمكن أن تنتهج سياسة بموجبها تحث البنوك على تقديم قروض للعاملين في القطاع الخاص عر توفير ضمانات من شركاتهم والحكومة كذلك، القضاء على الفساد والمحسوبية وفتح مجال الفرص الاستثمارية بالتساوي أمام الفاعلين الخصوصيين ، مع ميزة تفضيلية نسبية للذين يوظفون عمالة أكثر ويوفرون ظروف مادية مواتية لعمالتهم.

ماهو الحل؟ 

بدرجة كبيرة، ستكون الحكومة الموريتانية هي المسئولة عن إيجاد حلول تساعد بشكل فعال في الحد من البطالة المستشرية بين الشباب الموريتاني، قد يكون أهمها –على الأمد البعيد - التنسيق مع القطاع الخاص لمعرفة احتياجاته بشكل دقيق و العمل على إدراجها في المناهج الدراسية بالمعاهد والجامعات والغاء التخصصات غير المرغوبة في السوق الموريتانية و على الأمدين المتوسط والقريب فيمكن التركيز على إعادة تكوين للعمالة بشكل سريع حتى تكون قادرة على دخول سوق العمل، دون أن أنسى أن هناك يد عاملة ماهرة ومدربة جاهزة، ومن هنا تبرز ضرورة تدخل الحكومة عبر سياسة صارمة تجبر شركات القطاع الخاص على اكتتاب العمالة الجاهزة وتوفير عقود سليمة من الناحية القانونية بما تكفله من تأمين صحي واجتماعي...إلخ ، ثم إن اتباع استيراتيجية تقوم على مكافئة ومعاقبة الفاعلين في القطاع الخاص تبعا لدرجة التزامهم بالقوانين المنظمة لنشاطهم بما في ذلك حقوق العمال، كفيل بجعلهم يلتزمون بدرجة كبيرة بما هو مرسوم لهم ويساعدون بشكل فعال في خلق فرص عمال تخفف الضغط على الحكومة من أعداد الخريجين السنوية. بالاضافة الى تسهيل الوصول إلى قروض ميسرة مضمونة تسمح لعمال القطاع الخاص لتحقيق بعض حاجياتهم وأن يكونوا قادرين على انشاء مشاريع صغيرة تساعدهم في أمور حياتهم اليومية.

 

ثلاثاء, 10/11/2020 - 14:57