محمد ولد مولود ولد داداه الذي أعرفه!

يتعينُ علينا ذكرُ رجلٍ قد لا نجدُ العباراتِ اللائقة للإعرابِ عَن مَكانتهِ وَتفخرُ موريتانيا بإنها كانت مهداً له وأذكره بإسمهِ إنّه محمد ولد مولود ولد داداه، رجلُ الآدابِ والعالم بمعنىً يشملُ الثقافة الواسعة والعبقرية الفذّة، كان من البارزينَ في العلوم الشرقية خلال النّصفِ الثّاني من القَرن العِشرين فِي جميع فضاءِ الحَضارة العربية الإسلامية إبتداءً مِن الصّحاري الإفريقية والآسيوية إلى قِمم سلسة الهمالايا مروراً بالأندلس وأوربا المُتوسطيّة وجميعِ السّهول والغابات والأنهار الكبُرى الأوربية والآسيوية وفي التّاريخ القَديم مِن معرفةِ قويّة بجنوبِ الجزيرة العَربية ومُرتفعات أثيوبيا ومنابعِ النّيل ولا نَنسى مَعرفتهُ العميقة بتاريخِ العَقليات وَحقول الثقافة الأوربية بما فيها المناطق المتجمدة في أقصى الشمال.

 

وكان ليّ شرفُ التّعرفُ عليهِ منذ سنة 1966، وعقدتُ معه صلة كانت دائماً قوية وغنية. وطوال ستين سنة، ظل هو المصدر الواسع والخصب لجميع الباحثين و أساتذة الجامعات الغربية الذين أعدوا ونشروا أطروحات و أعمال رصينة حول شُعوب وثقافات الصّحراء الكبرى. ولكن مع الأسف لم يذكروه فيها إلّا قليلاً. وهو ما لم يعطه حقه ومكانته المَرموقة في مجال البحث العلمي، لأنه تميّز بالسخاء الكبير، وبروح منفتحةٍ إلى أقصد حد.

 

وكان من بين زواره، إن لم أقل مريديه، الذين عرفتهم، إنكليز وفرنسيون وإسبان  وبرازيليون، أّذكر من بينهم : شارل ستيورات، وجان دَفيس، والبروفسيرين دَنيس وروبير ومسيُو فارياس وبيربونت، وكانت لهُ كذلك علاقاتُ مميزةٍ ودقيقة على مستوى البحث مع بعض الأساتذة، كالعالم الفرنسي ثيودور مونو المتخصص في دراسة المجال الصحراوي، وأندريه ميكيل، وفينسانت مونتي، وبدرجة ما جاك برك وجرمين ثيلون. و أعتمد سفيرا في تونس مباشرةً بعد إعترافها بموريتانيا فأمضى تقريباً كل الأوقات في التردد على المكتبات وزيارة المعالم وكان له لقاء لا يُنسى مع الرئيس بورقيبة بمناسبة زيارته جامع الزيتونة، كانَ الرئيس التونسي ذا عقل حصيفٍ ميّال الى الثقافة وقدم إليه وزير ثقافته لمحة تاريخية عن هذه المؤسسة العلمية، وأعجب جداً بالتدخل غير المنتظر والخارج عن سنن البروتوكول لمحمد ولد مولود ولد داداه عندما قاطع عفوياً عروضَ الوزير لينبه الى تصحيحِ بعض النّقاط الأساسية في عرضه، عندئذٍ ترَك بورقيبة وزيره فورا وطلب من رجل الثقافة الموريتانية تقديم المزيد وكان من نتائج ذالك تقوية تعلقِ «المجاهد الأكبر» بموريتانيا.

 

وكان محمد ولد مولود ولد داداه هوّ مَن قبلَ بصعوبةٍ تحريرَ مذكرةِ طلبها الرئيس السنغالي سنكور على أن تكون موثقة وصحيحة حوَل زواج أمير الترارزة محمد لحبيب بجمبت أمبودج ملكة الوالو ، كرس هذا الزواج تحالفا له بعد تاريخي كبير في العلاقات بين الكيانين اللذين كانا حينذاك يسيران الشعوب المتاخمة لنهر السينغال.

وكان جميع إخوة ولد مولود (عبد الله، وإبراهيم، وعبد الرّحمن، وإسماعيل) يحملون كثيراً من المعارف الواسعة المتينه تقليدية ومعاصرة. أما عبد الله، فكان أول مدير لمدرسةِ تأهيل المُعلمين، إذ درّب ألوى الدفعات لتعليمٍ يجمع بين الأصالة و الحداثة في تناسقٍ جيد. وأعانه على ذلك أساتذة لبنانيون و تونسيون من ذوي التجربة العالية. أما إسماعيل فكات زميلاً لي في ثانوية فان فلنهوفن في دكار، وعُرّف فيها بالإمتياز، ومرّ على الديبلوماسية مروراً عابراً، لكنه كان لامعاً إذ عين قائماً بالإمال في المغرب، ثم سفيراً لدى القاهرة.

 

المصدر: محمد عالي شريف، سيرة من ذاكرة القرن العشرين، ص175-176.

سبت, 05/09/2020 - 11:27