التعليم عن بعد والإمكانات المهدورة

ظهر التعليم عن بعد أواسط القرن 19  في كل من أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية واستراليا مستفيدا من تطور الخدمات البريدية التي تطورت،وتحسن أداؤها بشكل كبير في تلك الفترة، فواكبت المنظومةُ التعليميةُ – يومئذ- ذلك التطور لتقدم للمجتمع ما سيعرف لاحقا بالتعليم عن بعد مستغلة تلك الإمكانات المستجدة لإكمال جوانب النقص التي ظلت تعاني منها المنظومة التعليمية الكلاسيكية، وبدت مساهمة التعليم عن بعد، حينئذ مبشرة وقادرة على المساهمة في حل كثير من تلك المشكلات، والتي من بينها : البعد عن المؤسسات التعليمية ، ومحدودية القدرة الاستيعابية لدى تلك المؤسسات ، والانشغال بالوظيفة ، ونقص وسائل التواصل .. وكان التعليمُ بالمراسلة الصيغةَالأولى من صيغ التعليم عن بعد حيث طبق هذا الأسلوب  في كافة المجالات بما في ذلك المجالات المهنية والعلمية، ثم انتشر التعليم عن بعد في العالم خصوصا بعد أن انتصرت الثورة البلشفية 1917 إذ قرر النظام الشيوعي آنذاك توسيع التعليم ليشمل أكبر عدد من الشعب معتمدا أسلوب التعليم بالمراسلة، وما إن انسلخ النصف الأول من القرن العشرين حتى كانت ثمة ملايين من طلبة الدولة الشيوعية قد تلقوا تعليمهم عبر نظام التعليم عن بعد في شتى المجالات ..

كما ساهم البث الإذاعي  مطلع العقد الثالث من القرن العشرين، ثم بعده البث التلفزيوني، في تحسين أداء خدمات التعليم عن بعد ليتضافر الصوت مع الصورة في سبيل الدفع بنظام التعليم عن بعد خطوات كبيرة إلى الأمام حيث تم استخدام هاتين الوسيلتين في المجال التعليمي بشكل مكثف، وظهرت مؤسسات تعليمية تعتمد عليهما كليا أو جزئيا في توصيل رسالتها؛ غير أن الطفرة الحقيقية التي أمدت التعليم عن بعد بدفع كبير كانت تلك المرتبطةبالحاسب الآلي، ثم بظهور الانترنت خصوصا في العقد الأخير من القرن المنصرم ؛ حيث ظهرت وسائل التواصل ذات الجودة العالية والسرعة الهائلة، فأخذ التعليم عن بعد أسلوبا آخر أكثر فاعلية ألا وهو التعليم الالكتروني، ولا يزال هذا الأسلوب ينمو ويتطور يوما بعد آخر ، وقد أنتج إلى حد الساعة بيئة تعليمية افتراضية متكاملة لا تقل شأنا عن البيئة التعليمة المباشرة ، وقادرة على أن تؤمن التواصل الفعّال الثنائي المتزامن، وغير المتزامن، بين الطلبةوالمدرّس، وبين الطلبة فيما بينهم، وبأسلوب يتميز بكثير من التشويق والجاذبية ، وقد أصبح التعليم الالكتروني صناعة من أسرع الصناعاتالتعليمية نموا في العالم غير أنها وبحكم ارتباطها القوي بالتكنولوجيا لا تزال شبه محتكرة لدى الكبار في كل من أمريكا وأوروبا وآسيا حيث تجاوزت عائدات هذه الصناعة في الولايات المتحدة وحدها سنة 2013 حدود 50% من مجمل العائدات العالمية.

والتعليم عن بعد عموما يتميز بأنه  الأقدر على تلبية حاجات العصر التعليمة بتكلفة أقل وبكفاءة عالية ، ويقلل من هدر الوقت،وينمي الاعتماد على النفس في المجال المعرفي، كما أنه يوفر المعرفة لأكبر عدد ممكن من الناس، كما يعتبر في نسخته  الالكترونية صديقا غير مزعج للبيئة، ولقد تعزز مجال التعليم الالكتروني مؤخرا وبدا وكأنه الأقدر على تدارك المنظومة التعليمية على مستوى العالم، وإخراجها من ورطتها التي آلت إليها بسبب جائحة (كوفيد -19) المدمرة .

وإذا كان التعليم عن بعد بشكل عام، قد انتشر في العالم بسرعة كبيرة حيث أصبحت ثمة مؤسسات تعليمية تقتصر خدماتها على هذا الأسلوب التعليمي،ومؤسسات أخرى تقدمها جنبا إلى جنب مع النٌّظم التعليمة الكلاسيكية؛ فإن عالمنا العربي ظلت تجاربه في هذا المجال جزئية وبطيئة إلى حد كبير، ربما لأن الجهود التي انصبت في مجال التعليم الكلاسيكي على مستوى العالم العربي ،والتي لم تؤت أكلها بالشكل المطلوب،لم تبق لديه مساحة يفكر من خلالها خارج العلبة، وقد ينضاف إلى ذلك أن الحكومات العربية  غير مهتمة أصلا بتيسير التعليم للجميع مخافة أن تزعجها الأعداد الغفيرة من الخرجينمما يزيد من حجم البطالة المخيف لديها؛ فباتت سياسة تحجيم القبول في المؤسسات التعليمية سياسة ممنهجة، للحد من الخريجين ، كما هو الحال عندنا في موريتانيا حيث وضعت وزارة التعليم العالي ـ مؤخرا ـ قوانين تمنع على مؤسسات التعليم العالي استقبال الطلبة الذين تزيد أعمارهم  عن سنّ الخامسة والعشرين، وأيّ فلسفة من هذا القبيل لن تكون معنية بالتعليم عن بعد الذي وُجد أساسا لتسهيل العملية التعليمة للجميع وتيسير انتشارها..

ورغم ذلك فقد ظلت بعض المؤسسات في العديد من البلدان العربية تقدم خدمات التعليم بالمراسلة على مستوى ضيق وبكثير من الارتجالية. وقد ضاقت بعض البلدان العربية​ذرعا بأزماتها التعليمية ـمؤخراـ فاضطرت إلى التعاطي مع أسلوب التعليم عن بعد فظهرت فيها جامعات متخصصة  تقدم خدمات التعليم عن بعد  عبر صيغته الالكترونية أو التعليم المفتوح كما هو الحال في سوريا ( الجامعة الافتراضية السورية سنة 2002م ) وفي السودان ( الجامعة السودانية المفتوحة سنة 2002م ) وفي مصر (الجامعة المصريةالالكترونية : 2008) والإمارات(جامعة حمدان الالكترونية : 2008 ) والسعودية (الجامعة الالكترونية السعودية : 2011 ) ..

أما على مستوى موريتانيا فقد أثمرت جهود الجالية بالسعودية في ظهور شكل من أشكال التعليم عن بعد، بَعد أن استجابت الحكومة لطلباتهاالمتكررة، فصدر أمر رئاسي سنة 2013يقضي بإنشاء وحدة تعليمية خارجية على مستوى جامعتي نواكشوط والعيون، وكنتُ شخصيا أحد الذين عُنوا بالموضوع على مستوى الجالية فاستلمت الملف على مستوى جامعة العيون وهي الجامعة الوحيدة التي استجابت حينها للأمر الرئاسي، وإذا كانت هذه الجامعة أبدت كثيرا من القلق والتردد في عهد رئيسها الأسبق إلى حدّ جعلها توقف المشروع في مهده ، فإنها أظهرت كثيرا من الإقدام في عهد خلفهالدكتور محمد المأمون بحكم اطلاعه الكبير على المعاناة التي يعانيها شباب الجالية على مستوى التعليم، وبحكم فهمه لما يعنيه مشروع من هذا القبيل في أوساط شباب الجالية،كما أنها بدت مرتبكة ولمّا تتبين الأسلوب والأداة اللتين سيتم اعتمادهما في هذا المجال عكس ما هو حاصل عندنا نحن على مستوى الجالية بسبب الخبرة المتجذرة لدى بعض أفراد الجالية المهتمين بموضوع التعليم ؛ حيث كانت ثمة أعداد معتبرة من الطلبة والباحثين تلتحق سنويا بالجامعات اليمنية والسودانية والماليزية عبر نظام التعليم عن بعد.

وما يمكن قوله في هذا الصدد أن المشروع نجح نجاحا غير متوقع وآيةُ ذلك الإقبال الكبير الذي ظل يتنامى متجاوزا الطاقة الاستيعابية المحدودة للمشروع سنة بعد أخرى ؛ ففي سنته الدراسية الأولى (2015-2016) كان العدد المسجل أقل من ثلاثين طالبا وظل الإقبال ينمو سنة بعد أخرى ليصل عدد المتقدمين للتسجيل في سنة دراسية واحدة ( 2018-2019 ) مائة وعشرينطالبا تقدمت للتسجيل،مما يدل على الثقة العالية التي بات مجتمع الجالية ينظر بها إلى المشروع،  وقد اعتمدت الجامعة أسلوبا مختلطا من نظام التعليم عن بعد دمجت فيه بين أساليب التعليم بالمراسلة مع التعليم الالكتروني والتعليم المباشر، والفضل في ذلك النجاح الباهر يعود أساسا للأساتذة الذين أبلوا في هذه التجربة بلاء حسنا معتمدين على جهودهم الخاصة، وخبراتهم الذاتية، وللإدارة التي ذللت الصعاب ومنحت الجميعَ الثقةَ الضرورية للمشاركة من غير تردد مشاركة فعالة تصب في سبيل نجاح هذه التجربة الرائدة؛ مما هيأ الجامعة اليوم لأن تكون المؤسسة الوطنية الوحيدة على مستوى الوطن القادرة على أن تلعب دور المشورة في مجال التعليم عن بعد الذي بات خيارا وحيدا في أيامنا هذه بعد أن فرضته الأزمة الصحية التي يمر بها عالمنا في وقتنا الراهن ، ولو قًدّر للجامعة أن تعقد ورشات سنوية لدراسة ومراجعة الآليات والأساليب الأكثر نجاعة في مجال التعليم عن بعد، وأن تستعين ببعض الخبراء في مجال تصميم الدروس والمحاضرات التي تقدم عن بعد، وكذلك في مجال التقويم والمتابعة ، وهي مواضيع تختلف على مستوى التعليم عن بعد عنها في مجال التعليم الكلاسيكي، ثم تَعمَد إلى تسجيل خبراتها في شكل مطويات، ونشرات، وبحوث محكمة، لحازت الدور الريادي على مستوى المنطقة بلا منازع في مجال التعليم عن بعد بحكم القدرات النوعية التي يتميز بهاطاقمها التدريسي والإداري .

وعلى كل حال هاهي الوحدة الخارجية للجامعة اليوم تستعد لتختم عامها السادس معتمدة في هذا الفصل تحديدا من السنة الدراسية الجارية على نظام التعليم عن بعد بشكل كامل ، وبنسبة مائة في المائة " وإذا كانت في ذلك  مكرهة إلا أنها بدون شك بطلة" لما تقدمه لمجتمعها من خدمات جليلة في فترة حرجة تتميز بالصعوبة البالغة ، وهذا لعمري نجاح يجب أن يسجل لهذه المؤسسة  بماء الذهب ، وأن يكون سببا لتنال بموجبه الدعم اللازم لتُطوّر من إمكاناتها وتنوع من خبراتها في هذا المجال وغيره .

يحيى البيضاوي ـ المدينة المنورة

خميس, 20/08/2020 - 16:24