د. حماه الله والبيان الثقافي رقم (2) أسئلة في الثقافة والمثقفين

بغيرته على المثقفين العرب يكتب الدكتور حماه الله بألم الحسرة الوجع الذي يتعرض له هؤلاء , والحيرة التي يعيشون , ما بين القضية والدور , والإديولوجيا والتحزب , وما بين السلطة والتوظيف.

الشيء الذي تسبب في التراخي أو على الأصح التفريط في المنتج الثقافي والإبداعي , وكذلك إلى الصراع الإديولوجي وهذا الأخير حال دون إنتاج إديولوجية عربية صرفة .

وهي حيرة فرضها عليهم – حسب رأيه - بعدهم عن دورهم الأساسي : (حمل مشروع الإخاء والتفاهم بين الناس , والذي لا يتم إلا بالخروج من رهانات التسيس والإديولوجيا والمذهب والطائفة ).

نحن إذن – بقراءتنا ورقة د. حماه الله – أمام بيان ثقافي جديد مثل أول بيان ثقافي في التاريخ (إنني أحتج) المنشور في جريدة لورور الباريزية 1898 والموقع من طرف "أميل زولا" و"أناتول افرانس" وغيرهما من كبار المثقفين الفرنسيين , لكنه هذه المرة يخص فئة بعينها هي المثقفين العرب.

هنا يبرز السؤال من هو المثقف ..؟

يرى عالم الاجتماع العراقي د. علي الوردي : أنه ليس كل من كسب معلومات ومعارف كثيرة يعتبر مثقفا , إذا لم يتميز بمرونة في الرأي واستعداد لتلقى كل فكرة والتأمل في وجه الصواب فيها .

وتقول الكاتبة / غيداء درويش : إن المثقف هو من يخرجنا من فوضى المفاهيم , ويدخلنا ثقافة الحياة ذاتها .

ويحيلنا د. عابد الجابري في قراءته للبيان الثقافي لأميل زولا إلى أن المثقف : ليس ذلك الشخص الذي لا يكتفي بممارسة النشاط الفكري النابع من الوعي والفهم وسعة الأفق فقط , بل هو صاحبة رسالة ويبحث عن الحقيقة ... .

ويتابع : هو من تتحول عنده الأفكار إلى نماذج ومثل ومبادئ لا تفرق بين عقيدة أو لون أو جنس أو توجه سياسي وآخر .......

وهذا بالضبط هو محور وجوهر ورقة الدكتور حماه الله , وهو بهذا يبتعد عن مضمون بعض الحواريات العميقة التي صاغتها / د. "سيمون دا بوفوار" على لسان أحد أبطال روايتها الشهيرة :  " المثقفون " يقول "سكرياسين" : إنكم في بلاد ديدورو , وفكتور هيغو , وجوريس تتصورون أن الثقافة والسياسة تسيران يدا بيد ....

وكذلك قول الفيلسوف الألماني "هابرماز" : الثقافة هي عبور المثقف من الحقل الثقافي إلى الحقل السياسي أو بالأدق فضاء الشأن العام.

وكذلك ما يطلق عليه الروس "الأنتلجنسيا" : المثقفون هم الذين يناضلون من أجل أهداف سياسية ثورية .

وبطرح حماه هذا لدور المثقف يجعله خارج الفعل , أو على الأصح يلعب دور المراقب , وهنا يبرز التساؤل هل المثقف محايد ..؟

يرى الفيلسوف الفرنسي / سارتر أن المثقف هو الذي يدس أنفه فيما لا يعنيه :

)Quelqu’un qui se melede ce qui ne le regarde pas (

ويقول د. أدورد سعيد : المثقف معني بالمساهمة الفاعلة في معالجة كبريات قضايا المجتمع الجذرية ومحاولة إصلاحها .

ويزيد فيقول : إن إحدى مهمات المثقف هي بذل الجهد لتهشيم الآراء المقبولة , والمقولات التصغيرية التي تحد كثيرا من الفكر الإنساني والاتصال الفكري .

ويقول "ريمون أرون" : المثقف ليس مجرد مبدع أفكار ومتفرج ملتزم , بل صوتا للمظلومين , ومن يتوفر على حس إنساني عالي المستوى ...

هذه المقولات – وهي لمثقفين "عضويين" - تناقض مثيلاتها القائلة بأن المثقف محايد لا صانع مواقف , وتلك التي تقول إنه من يتوفر على نشاط ذهني غير الذي عند الآخرين , وأيضا التي تقول : إنه مؤلف لغة تحاول أن تقول الحقيقة.

لعل د. حماه الله يمثل الرأي الأخير حين يقول : على المثقفين أن يبينوا للسلطة وخصومها أنهم ليسوا حزبا سياسيا , ولا جوقة طبالين , إنهم شيء آخر مختلف تماما .

 وهو هنا يثبت ما قاله الفيلسوف الإيطالي / أغرامشي لكن بلغة معاكسة : ليس المثقفون أكثر من موظفين لدى الجماعة المسيطرة , وخبراء في إضفاء الشرعية على الكتلة الحاكمة .

والتباين حول دور المثقف ومنزلته في المجتمع وفي الفعل ربما يكون بسبب الخلاف بين المثقف العضوي الذي ينظر لقضايا المجتمع من حيث الانتماء والارتباط الحزبيين , وبين الذين يرون أن دور المثقف  تحدي الواقع حيث كان .

يقول د. اتشومسكي : المثقف هو من يمثل الحقيقة في وجه القوة .

ومع كثرة التنظير حول المثقف نخلص إلى رأي المفكر والمؤرخ الجزائري / خير الدين سعيدوني : إنه المتميز بنزعة العقلانية النقدية الاحتجاجية .

.....

ولو نظرنا إلى هذه الحيرة - كمراقبين - نجد أن لها إكراهاتها ودوافعها , أظهر تلك التهميش من قبل مقرري الحالة الثقافية وكذلك بالأحرى الحالة السياسية , فلا يوجد تواصل ولا تلاقي بين المثقف الحيوي المتطلع للفعل والإرادة وبين محركي دورة الحياة في الحيز القطري الذي يوجد فيه كل مثقف وكل متعاط للفكر والتأمل والرؤى , وبالتالي غاب التكامل بين الأدوار التي يجب أن يلعب كل واحد منهما حسب موقعه وما لديه من مستويات معرفية .

وبما أن زاد المثقفين المعرفي مشحون بتجارب تاريخية أثرت في الحياة وأثرتها , كان المثقف هو محورها ومحركها الأساس - اعتبرها الدكتور أركون أول "أنسنة" للعلوم - مثل المناظرات المشهورة في مجالس الخلفاء والأمراء أيام العهد العباسي بين:

الإمام الشافعي والفقيه محمد بن الحسن .

الكسائي والأصمعي.

بديع الزمان الهمذاني والخوارزمي.

وما دار منها في بلاط سيف الدولة الحمداني .

وما ذكره الزجاجي في كتابه "مجالس العلماء" .

هذه المناظرات هي التي استوحى منها ابن بن نباتة في العصر المملوكي مناظرته المتخيلة "بين السف والقلم" .

صالون "القصر المريني" ونجمه العالم والمثقف الأندلسي الكبير / إبراهيم الآبولي , يذكر هنا أن هذا الصالون كان له الأثر الكبير في تكوين النسيج المعرفي المتعدد لابن خلدون .

وكذلك المسحة التنويرية التي طبع بها المستكشفون العرب في القرن التاسع عشر أوجه الحياة في بلدانهم , بعد اطلاعهم على الحضارة الأوربية ونقل مظاهرها لأوطانهم مثل :

رسالة العبد الضعيف إلى السلطان الشريف لابن عزوز 1849مـ (المغرب).

تلخيص الإبريز في تلخيص باريز للطهطاوي 1831 مـ (مصر).

وغيرهما .

الظروف والطموحات والثقة في المحصول والإنتاج المعرفيين , تجعل المثقف أحيانا تحت وطأة الذاكرة يبحث عن الانتماء والانتساب كفرصة للمشاركة في الفعل أو أبعد من ذلك لمجال الريادة , أو على الأقل للبقاء على قيد الحياة , كي لا يتكرر ما فعل التوحيدي , وعمرو بن العلاء , وداوود الطائي , وأبي سليمان الداراني , والنهايات المأساوية الأليمة لابن الأبار وابن رشد وابن الخطيب ويحيى ابن خلدون وغيرهم كثر .

.....

يستدعى الدكتور حماه الله – على سبيل الاستئناس بالتاريخ - تجربة الدكتور طه حسين وليته لم يفعل .

رجع د. طه حسين من رحلته الباريزية مشبعا بروح العقلانية الديكارتية والسوسيولوجيا الخلدونية حسب قراءة الغربيين لها , ما جعله يعتلي قمة الدرس والبحث في الجامعة المصرية وفى القراءة العربية بوجه عام , ففتن الناس بمنهجه الجديد خصوصا نظرته للتراث وبالأخص الأدبي منه تحت تأثير قراءاته في (ليمانسم) المذهب الإنساني الذي ابتدعه أصحاب النزعة الإحيائية (رينسيمانتو ) في إيطاليا نهاية القرن الرابع عشر.

وهو ما كان له أثره المدمر على الدرس الأدبي ليس في مصر وحدها , وإنما في العالم العربي بصفة شاملة ,حيث انتقل الدرس الأدبي من دراسة النصوص متنا وحفظا ولغة وبيانا وبلاغة إلخ .. إلى دراسة تاريخ أصحاب النصوص وبالتالي أنهار مستوى الطلبة إلى اليوم .

وعلى عكس توظيف الغربيين هذا المذهب لدراسة التراث القديم في أصوله وتقنين نتائجه عن طريق : المنطق والبراهين التجريبية لإحيائه واسترجاعه من لغات الترجمة خصوصا العربية إلى لغات الأصل , حاول طه حسين توظيفه بشكل معاكس لتدمير التراث العربي ونسفه من الأساس , قبل أن يصطدم بالعقل الجمعي المصري الواعي لأهمية تراثه .

وفى هذه أغفل د. حماه الله  كون طه حسين توقف دوره التنويري وعطاؤه الثقافي والفكري الحر بانتمائه الحزبي – ما بعد العشرينيات - ليصبح مثل غيره موظفا وكاتب عمود في صحيفة ومؤلف كتب , لا كمفكر ملهم ومصلح , ولم يبق له من ذكر إلا إذا كان عرضا في تاريخ النقد الأدبي .

.....

وبخصوص هل هناك أزمة ثقافية ..؟

ترجع به الذاكرة – وهو المؤرخ البارز – إلى كتاب "أزمة المثقفين العرب" للدكتور عبد الله العروي مستدلا به على قدمها واستمراريتها , هذا الكتاب الذي تساءل فيه مؤلفه – منظر إديولوجية نقد الإديولوجيا العربية - عن دواعي الإديولوجيا المتقلبة فى المجتمع العربي , مجيبا على ذلك بعدم استيعاب الفكر العربي لمكاسب العقل الحديث وعقلانيته وموضوعيته وأنسنته  .

هذا الكتاب المؤلف وسط الستينات من القرن الماضي - وليس بداياته كما ذكر الدكتور - يعتبره الدارسون لفكر العروي ليس إلا مقدمة لكتابه "العرب والفكر التاريخي" يؤسس فيهما لرؤيته المكرسة للقطيعة مع التراث مستلهما ومنظرا أحيانا للتاريخانية الماركسية مستندا في ذلك على منهج تحليلي استقاه من تجارب البحث والحفر للتاريخ الغربي , ليوظفه في تحليله للواقع العربي واستحالة النهوض , لكن ليس عن معرفة معمقة نابعة من دراسة تمحيصية لهذا التراث , وإنما عن تصورات ذهنية خيالية ومفاهيم تحتاج لأسس , وقياس في غير محله على التراث الغربي .

وهو ما جعل الكتاب في عزلة عن القارئ العربي ليس لتأخر الترجمة عقودا كما يقول الدكتور حماه الله – ترجمه د. ذوقان قرقوط 1978 لعل الدكتور لم يطلع عليها- وإنما لنظرته الفوقية وبحثه خارج السياق المعرفي للتراث العربي الإسلامي .

يقول د. قرقوط في مقدمة ترجمته : إن محتوى هذا الكتاب على ما أدرك جيدا قليل الارتباط بالحالة الحاضرة , فالواقع الذي يحاول إيضاحه سوف يمكن دحضه دائما , حتى أن المعنى المجرد للتأخر الثقافي الذي يبرره يمكن بسهولة دحضه لأنه من جانب واحد وليس اديالكتيكيا .

في قراءته لطرح العروي يقول الباحث/ مرشدي كريم : تظهر واضحة نوعية العلاقة التي تربط النهضة والتراث في فكر العروي , إنه ليس تراث العرب بل هو تراث أوروبا , يرفض ماض ليأخذ بآخر...

ويتابع في مكان آخر : وهكذا يبقى فكر العروي وفيا لمسألة التراث والنهضة , إلا أنه ليس تراث العرب بل تراث الغرب من ماركسية ألمانية بالخصوص وليبرالية أوروبية غربية , ويبقى التراث العربي بالنسبة له شيئا لا طائل من ورائه ...

ويستطرد نقلا عن الجابري في "الخطاب العربي المعاصر": إنها إحدى نقائص العقل العربي التي تلازمه , سواء تحدث عنه في داخل تراثنا أو في داخل الفكر الأوربي أو في مكان يقع بينهما .

العروي نفسه يقول في كتابه "مفهوم الإديولوجيا" : إن وضوح المفاهيم المستعملة لا يوصل بالضرورة إلى إدراك الواقع , لكن على الأقل تخلص الباحث من التساؤلات الزائفة , وما أكثر التساؤلات الزائفة في ميدان نقد الذهنيات .

ويقول في كتابه "مفهوم العقل" : إن المفاهيم التي شرحتها والتي كان يمكن أن أتمم بها السلسلة , لا تطابق المجتمعات العربية مطابقة تامة .

 ثم ينقل د. حماه الله عن د. حسن حنفي تبريراته - المتفائلة الحالمة الماكرة – للأزمة : لعدم وجود خط وسط بين المثقف والسياسي , ولوجود استقطاب ما بين الحداثيين ومن لا يقبلون التنوير - من وجهة نظره - , ولكون الاختلاف يعطي للحياة السياسية معنى يتجلى في التنوع حول الحقوق والمنافع والأفكار , وأنها دليل على الحيوية ونهاية قديم وبداية جديد (...).

هل يغيب عن د. حماه الله أن حسن حنفي هو مغذي هذا الاستقطاب ومحركه ..؟

هنا نتساءل ما سر استدعاء د. حماه الله لهذا الثلاثي الممثل الحي للقطيعة مع التراث ..؟ هل هي بواعث تشكلت في وعيه أثناء بحوثه ودراساته للتراث خصوصا جانبه المحلي بالنسبة له ..؟

أم هي محاولة عن قصد أو غيره لتأسيس رؤية "تاريخانية" للتنويريين العرب تلغي كل الذين دافعوا عن هذا التراث وأهميته في تشكيل مراحل تكوين الشخصية العربية الإسلامية عبر الامتداد الزمني والجغرافي لتواجد مراكز ثقلها الحضاري .

إن عدم ذكر أسماء معاصرة لطه حسين مثل : د. أحمد زكي باشا , أحمد أمين , العقاد , وحتى الذين لم يدافعوا عن هذا التراث مثل : أحمد لطفي السيد الذي يصفه العقاد بإفلاطون الأدب العربي , وأول من دعا في العالم العربي إلى ضرورة تمتع الفرد بكثير من الحرية وبغياب رقابة الدولة على المجتمع , وبضرورة أن يكون الحكم قائما على أساس التعاقد بين الحاكم والناس , ولا للجابري وأركون ومحمد عماره المعاصرين لحنفي والعروي ,  يجعلنا نتساءل عن الدافع لذلك .

في تأريخه للمرحلة الثانية من الأنوار في الغرب والتي كان لها تأثيرها البالغ , ذكر د. أركون ثلاثة أعلام لا يربطهم خط فكري معين ولا نسق في التوجهات والأطروحات مثل : هيجل "نقد العقد التشريعي" , نتشي"تاريخ القيم الأخلاقية" , فرويد"العقل الباطن" حتى أنه ذكر الكتاب الذي تعقب فيه كارل ماركس كتاب هيجل (محاضرات الكويت 2008).

 

ما هي الثقافة :

لها تعريفات متعددة :

يعرفها "فون اغرونيوم" بأنها : نظام مغلق من الأسئلة والأجوبة المتعلقة بالكون وبالسلوك الإنساني .

غير أن أشملها وما تواضع عليه الناس , ما عرفها به الدكتور / أدوارد تايلور منتصف القرن التاسع عشر بأنها : ذلك المركب الكلي الذي يشتمل على المعرفة والمعتقد والفن والآداب والأخلاق والقانون والعرف والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضوا في المجتمع .

يعلق الدكتور / معن زياده قائلا  : على ضوء الدراسات المستجدة أصبح بمقدورنا أن نأخذ على تعريف "تايلور" عموميته وطابعه الوصفي , وإهماله حركية وديناميكية الظاهرة الثقافية من جهة البيئة والمحيط الخاص بتلك الثقافة من جهة أخرى .

حاليا يصعب تحديد مصطلح "ثقافة" هكذا كحالة خصوصية لمجتمع ما , وإنما ثقافات لتشابك العالم وتطور شبكات الاتصال وسيطرة الشركات العابرة للقارات على المجال الحياتي بكل أنواعه من السياسة حتى أنماط الأكل .

قديما كانت الثقافة تنتقل من جيل لجيل ليس بالمفهوم البيولجي وإنما بالتلقين , وعن طريق هذا التلقين تتكون منظومة ثقافية اجتماعية في فضاء معين وواقع معين .

اليوم تدخلت وسائط التواصل الاجتماعي لتخفف من التواصل الحسي , ولتفرض واقعا اجتماعيا ذهنيا , ينافس وينازع الواقع الثقافي الاجتماعي المعاش موقعه وسيطرته , مما جعل المثقف العربي وليس الإنسان العادي يعيش اغترابا على جميع الصعد .

وهنا تعاني الثقافة - في الدول العربية - و"منتجها" المثقف العربي من صعوبة لعب أي دور له فاعليته وانعكاساته على الحياة العامة بصفة مستقلة , لهيمنة ما يعرف بالثقافة الموجهة "التي يتم التخطيط لها على أسس متينة وقواعد ثابتة" .

وهذه للأسف هي السائدة في العالم العربي الذي يتكلم البيان عن مثقفيه , هذه الثقافة الموجهة هي التي تصادر الكتب وتحاسب على مقالات الرأي وتوقف الجرائد والمجلات عن الصدور والمالكة والمتحكمة في قنوات البث .

ولعل هذا ما يحاول د. حماه الله البحث عن تجاوزه في تساؤلاته المشحونة بالأمل والملاحظات المرنة والمآخذ اللينة . 

.....

الهويات القلقة 

 هي نتيجة لعدم وجود إديولوجية عربية صرفة كما ذكر البيان , وذلك لتغييب رواد النشأة للعامل الأنتربولوجي واللساني والسوسيولجي وعلم النفس في المنطلقات التي على أساسها وجدت هذه الإديولوجيات أو أريد لها أن توجد .

إن التطابق في المستوى الواحد من الثقافة والمعرفة لا يعطي دائما نتيجة أمام الاختلاف الفكري النابع عن خلفية المعتقد .

وهنا تأتي أهمية النظر - في كل مشروع مجتمعي - إلى أسباب الترابط الفكري والتفاعل الثقافي .

إن عدم النظر للتركيبة السكانية للبلدان العربية "ديمغرافيا" وعقائديا و"لغويا" كعامل أساسي للوحدة , عند تبني أي توجه سياسي أو ثقافي أو تنموي يمس مصير البلد ولا ينظر إليه ككتلة غير متجانسة متعددة الوجدان والفلكلور , هو السبب الرئيس في الحالة القلقة سياسيا وثقافيا ,التي تعيشها الثقافة والمثقف العربيين وحاضنتيهما الصغرى الدولة والكبرى الأمة .

هذه العوامل المغيبة هي السبب في حيرة المثقف العربي كحالة ثقافية سياسية مستقلة عن القطر منتمية للأمة , وهي الحالة الوجدانية التي يعيشها د. حماه الله , لكن بطريقته التي تحبذ الأمل على اليأس والانطلاق بدل الركود والاستسلام .

 لا يغيب عنا أن الإديولوجيات الممارسة في الأقطار ليست من نتاج الواقع والحالة المعاشة ولا قراءة التاريخ المحلي , وإنما استوردت كما استوردت الكماليات , وبالتالي لها تنوعها حسب مصادرها التي هي مرجعياتها.

وبما أنها خارجة عن السياق المحلي وليست نابعة من واقعه السوسيولوجي - باختلافه وتعارضه أحيانا - وكذلك تسلسله التاريخي تبقى أداة خارجية لإدارة الصراع الداخلي وديمومته .

.....

حزب المثقفين

بإشارته إلى حزب المثقفين , يستدعي د. حماه الله –  قصد أو لم يقصد – ما عرف في إيطاليا القرن الرابع عشر "بالثقة السميكة" : العلاقة الشخصية بين الأعضاء في المجموعة الواحدة , والتي تطورت بعد ذلك  ظهور حركة "الرينيصانص" إعادة الميلاد ومنهجها في قراءة العلوم والمجتمع "ليمانسم" لتصبح "الثقة الرقيقة" : الناس يثقون بعضهم ببعض , لأنه تحكمهم نفس الحكومة والقانون والمعرفة الشخصية بينهم , وهو الذي تعتبر الدولة الحديثة امتدادا له .

هذه النظم ظهرت في الفترة الزمنية التي يطلق عليها عصر النهضة , ويطلق عليها بعض المفكرين الألمان الحداثة المبكرة .

نحن إذن أمام ورقة تدعو لمشروع إحيائي نهضوي شجاع , يأخذ من حركة التاريخ وتجاربها الرائدة أسس انطلاقته , خصوصا تجربة القرن الخامس عشر وثورة المذهب الإنساني المتوقدة التي مهدت لعصر الأنوار في أوروبا بقانونها الشهير الذي فتق دوافع جديدة للاكتشافات في الأفكار والحجج :

"رفض الهزيمة في النقاش , رفض الاعتراف بنقطة النهاية للجدل والنقاش" , الذي أنتج أساليب ومفاهيم جديدة مثل : فلسفة / ديكارت .

يعزز ما سقناه رفض الدكتور للاستسلام , وعدم البحث عن نهاية , ودعوته للمثقفين للرجوع للكتابة والتفكير والإبداع والخيال والأمل قائلا : ولن يجدوه إلا حيث هو في الحرف والكلمة والمعنى , ذاكرا في بعض الفقرات القصة والرواية.

وهي نفس دعوة "الإنسانيين" نهاية القرن الرابع عشر والقرن الخامس عشر , للتركيز على خمسة علوم إنسانية : الشعر , النحو , التاريخ , الفلسفة الأخلاقية , فن الخطابة .

هنا يتجلى صراحة تأثير التاريخانية على قراءة د.حماه الله لحالة المثقف العربي , وللحالة الثقافية بصفة أشمل , وللحالة الوجودية الراهنة للدولة العربية بصفة أدق , باستحضاره الظرف والزمان خصوصا الماضي بصفة مستمرة , يقول عن المثقف : صنعته التي تميزه منذ العصر الوسيط أن يكون مبدعا وناقدا وكاتبا. 

  ما بعد الربيع العربي 

يكتب الدكتور بحسرة : تحت وهج الثورات العربية ينقسمون إلى وطنيين وديمقراطيين , وكأن الخيار هو من يطالب بالديمقراطية ومن يضحي بالوطن , ومن يدافع عن هذا الأخير يرفض الحرية ...

   لعل د. حماه الله لم يقرأ قول "سكرياسين" أحد أبطال رواية سيمون د بوفوار المثقفون : إننا نقترب من عصر ستكون فيه الإنسانية لأسباب عدة , فريسة لمشاكل لن تترك لها ترف التعبير عن نفسها .

هل نحن نعيش نبوءة أبطال هذه الرواية المؤلفة بعد أحداث الحرب العالمية الثانية وتحت وطأة تداعياتها ..؟

أم الجدلية الخلدونية : استمرارية الحياة وانقطاعها وتبدل الأدوار ...؟

.....

وتحت وطأة صدمة التجاذبات العدمية بين من ...؟ ومن ...؟ , يحاول الدكتور على مضض إيجاد مسوغ لدخول بعض المثقفين في تفاهمات مع الدولة كملاذ أخير لحماية كيانها .

هؤلاء المثقفون على افتراض حسن نياتهم لم يأخذوا العبرة من التاريخ ولا من تجارب المثقف الجاد الملتزم مع الساسة وألاعيب السياسة .

يقول "هنري" أحد أبطال رواية المثقفين : لجان , محاضرات , مؤتمرات , خطابات , كلام , كلام ... إلى ما لا نهاية من المناورات , والتساهل , والقبول بالتسويات العرجاء ...

يختم د. حماه الله بيانه بجملة حالمة تحكمها العاطفة والشفقة على راهنية الواقع : يبدو الاصطفاف اليوم بين الإسلاميين والحداثيين خادعا وخطرا على المجتمعات العربية والإسلامية , وينبغي تجاوزه نحو الاستقطاب الإبداعي الذي يخفف من غلواء الصدام السياسي والإديولوجي .

إنها إذن الأممية من جديد , لكنها خلاف سابقتها أممية ثقافية .

.....

هذا البيان يستلهم دور المثقف عبر التاريخ في تغيير الواقع والتأثير فيه وعليه , فكلما تطور الأفق المعرفي – الذي يدعو له البيان - وخصوصا العلوم العقلية لدى الفرد مكنه ذلك من قابلية التأثير في عقول الآخرين وبالتالي في الواقع , لأن عقل الإنسان مكون من جهازين : (استقبال – بث).

 إنها دائما تداعيات القرن الرابع عشر" الرينيصانص" والمذهب الإنساني على الدكتور : "قدرة العقل البشري الفريدة والاستثنائية" .

 يأتي هذا البيان في الوقت المناسب , بعد قراءة متأنية للتاريخ  وأخرى واعية للواقع بتعقيداته وتنوعها , ممحصة للخلفيات وما قد يكون الدافع والسبب , من مثقف ينطلق من البذخ الفكري , ورفاهية الوعي , ودقة المعلومة كعالم تاريخ يعيش تدافع أحداثه ويمتلك لغة تفكيكه وتشريحه , والعاطفة التي لا يمنعها الحس الوجداني المرهف من النظر بعين العقلانية إلى الأشياء والتصورات .

على المثقفين أن يتبنوا هذا البيان ويوقعوه , وإلا ضاعت عليهم الفرصة كما ضاعت على "فولتير" صاحب رسالة التسامح 1763 مـ وصاحب المقولة الشهيرة : قد أختلف معك في الرأي لكنني قد أموت دفاعا عنك , ومن قبله على "مونتسكيه" 1755م صاحب كتاب روح القوانين , فقد كتبا في نفس الموضوع ولنفس الأسباب , إلا أن معاصريهم من ذوي الفكر لم يحملوا معهم الهم كما فعل معاصروا "أميل زولا" بعد ذلك بكثير , فكانوا أصحاب المنعطف الخطير في دور وتأثير المثقف في العصر الحديث .

عليهم أن يكتبوا له ديباجة مثل ديباجة البيان الشيوعي التي كتب ماركس ورفاقه سنة 1847م:

(إن الشيوعيين قد آن لهم أن يعرضوا أمام العالم كله طرق تفكيرهم وأهدافهم واتجاهاتهم , وأن يواجهوا خرافة شبح الشيوعية ببيان من الحزب نفسه , ولهذه الغاية اجتمع في لندن شيوعيون من مختلف القوميات ووضعوا البيان التالي) .

 

خميس, 30/07/2020 - 10:56