هزيمة حزيران : أم النكبات والهزائم (3)

استعرضنا في الحلقتين السابقتين جانبا من نتائج الهزيمة أو الفاجعة التي حلت بمصر وبعدد من الدول العربية، فكم كان مؤلما احتلال الأرض وتدمير الجيوش دون قتال لكن الأكثر إيلاما هو أن يذبح الرجال وهم أسرى بدم بارد فتسحقهم الدبابات وتستخدم معهم إسرائيل جميع أنواع الغدر والإذلال والإهانة فيطلبون الضباط لشرب الماء وعندما يتقدمون إلى الماء يقتلون بكل وحشية. هناك داس الإسرائيليون وبشهوة جامحة على كرامة الإنسان لأنه عربي ولأنه مسلم، أرادوا بذلك إيصال رسالة متعددة المعاني منها نقض العهود وعدم احترام الإنسان وأن اللغة الوحيدة للتعامل معهم هي لغة القوة.

في هذا الجزء سنستعرض اعترافات بعض الإسرائيليين حول قتل الأسرى المصريين وكذلك أقوال بعض الجنود المصريين الناجين من تجربة الأسر المريرة سنة 1967.

 

اعترافات الإسرائيليين

كشف موتي غولاني الذي كان جنديا ثم ضابطا قبل أن يصبح مؤرخا لأول مرة عن قتل إسرائيل 35 أسيرا مصريا غرب سيناء عام 56 وذلك بعد اطلاعه سنة 1994على الوثائق السرية لوزارة الدفاع الإسرائيلية واثبت هذا في بحثه في تاريخ إسرائيل مع العرب، وأثناء هذه الحرب كذلك نزلت وراء الخطوط المصرية كتيبة مظلات إسرائيلية في "ممر مثلا" ووقع بين أيديها 49 أسيرا مصريا وعربيا معظمهم من عمال الطرق طرحوا أرضا ثم أفرغ الرصاص في رؤوسهم، ثم تقدمت الكتيبة بعد ذلك تجاه رأس سدر فذبحت في طريقها أولا 56 جنديا ومدنيا غير مسلحين داخل شاحناتهم، وهذا المصير نفسه لقيه 168 جنديا آخر بعد استسلامهم، حسبما ورد في الاحصائيات الإسرائيلية وليسالمصرية.  

 

ويقول داني وولف- عقيد سلاح المظلات الإسرائيلية المتقاعد. 

“كل من علم بذلك – يقصد قتل الأسرى – اعتقد أنها جريمة قبيحة وأنها ليست في صالحنا، لا أحد يتفق مع ذلك ولكن الظروف التي أحاطت بنا كانت خاصة جدا، إذ كنا 300 جندي على بعد 200 كلم خلف خطوط العدو، حولنا من جميع الجهات كتائب الجيش المصري، لا تصلنا إمدادات لا أحد يستطيع مساعداتنا، كان لدى كل جندي لتر واحد من الماء لمدة 24 ساعة، أنا لا أحاول ولا أريد أحدا أن يسيءفهمي فيظن أنني أوافق على هذا الفعل ولكن البديل كان أن نرسلهم إلى الصحراء كي يموتوا هناك.”

 

اعترافات الجندي الإسرائيلي إرييه بيرو.

 

من قتل الأسرى في ممر مثلا؟ 

= أحد الضباط وأنا.

هل ربطتم وثاق الأسرى قبل قتلهم؟ 

= إنكم تسألون أسئلة غريبة... ولكن نعم ربطناهم. 

كم كان عددهم؟ 

= ليس لهم عدد معين قتلنا مئات.

كيف كانوا قبل قتلهم؟

=منهم من رقد على بطنه، ومنهم من وقف مذهولا.

هل تعتبر ما فعلت جريمة؟ 

= إن قتل المصريين كان واجبا، وإن أي مصري كان يعلم عنا كان يجب قتله. 

هل حققوا معكم بعد ذلك؟ 

= لا، لقد أصدروا قرارات ترقية للجنود والضباط جميعهم. 

وهكذا كافأت إسرائيل جنودها وضباطها على قتل الأسرى المصريين بدم بارد.

 

ويقول غبرييل برون- سلاح الإشارة الإسرائيلي 1967:

”صباح السابع من يونيو حزيران رأيت في مطار العريش بين مائة وعشرين ومائة وخمسين جنديا مصريا مطروحين أرضا مكبلين من الخلف، بين الحين والآخر يدفع واحد منهم للاستجواب أمام طاولة يجلس عليها رجلان ملثمان، بعد استجواب أحد الأسرى رأيت جنديين إسرائيليين يقتادانه مسافة مائتي متر نحو الصحراء، أعطاه أحدهما جاروفا فبدأ الأسير المصري في الحفر، بعد خمسة عشرة دقيقة أطلق الإسرائيليان رصاصتين داخل الحفرة، جيء بأسير آخر أفرغت في رأسه رصاصتان أخريان في الحفرة نفسها، ثم جيء بأسير ثالث وأمر بردم الحفرة، رأيت خمسة أسرى يفعل بهم الشيء نفسه، قبل ذلك بقليل كنت قد سمعت عشرة طلقات نارية مشابهة، فهمت أن خمسة آخرين قتلوا بالطريقة نفسها."

 

تصوير الأسرى المصريين لما تعرضوا له من بطش وتعذيب

 

غدر الإسرائيليين 

خلف المنبعي- من أهالي العريش.

ذكر خلف بأنه عندما بدأت الطائرات الإسرائيلية بالضرب استطاع قراءة العبارة التالية: "ارفعوا الراية البيضاء وعودوا إلى منازلكم فجيش الدفاع الإسرائيلي لن يفعل لكم أي شيء."

ويقول عبد الكريم الجعفري- المخابرات المصرية 1967.

"كانوا يقتلون المدنيين والجيش، أخذو حوالي 250 شخص من المنطقة وإلى هذه اللحظة لا نعرف مصيرهم."

 

سرقة الأعضاء

ارتكب الإسرائيليون جرائم فظيعة في حق آلاف المصريين العزل، وتفننوا في الجرائم حتى سرقة الأعضاء فأخذوا عينات من بعض الأسرى قبل أن يختفوا نهائيا. 

وهذا منهج معروف يتبعه الإسرائيليون مع الأسرى عموما بل إنهم يتخذون من الأسرى أحيانا حقولا للتجارب كما حصل مع أحد الأسرى المصريين الذي اعتقل ليلة زفافه في سيناء وقضى 22 سنة في الأسر وقد خضع لعدة عمليات جراحية لأغراض تعليمية في كلية الطب في تل آبيب.

 

يقول أمين عبد الرحمن- ضابط صف مشاة 1967. 

"كان الجنود الإسرائيليون يقولون بأن من أراد الماء فليذهب لشربه وعندما تقدم الأسرى قالوا لهم بأن يفسحوا المجال للضباط أولاليشربوا فسلطوا عليهم مدافعهم وقتلوهم جميعا. رأيت بأعيني الدبابات الإسرائيلية تقوم بدعس الأسرى وتقتلهم أو تدفنهم أحياء. استسلمت وحدتنا لعدم تمكنها من المقاومة فقتلوا عددا من الجنود وكانوا يتلذذون بقتلهم."

ونسجل هنا الشجاعة النادرة للضباط المصريين الذين كانوا في الأسر فقد تخفوا حتى لا تعرف رتبهم فلما بدأ الإسرائيليون بأخذ بعض الجنود ربما – ظنا منهم أنهم هم القادة- لقتلهم عندها تقدم الضباط وعرفوا بأنفسهم أنهم هم القادة لحماية جنودهم. فلله درهم ما أعظم شجاعتهم.

 

أما محمد حسين يونس- نقيب مهندس 1967، فيصف مراحل معاملة الأسرى:

المرحلة الأولى: كان الإسرائيليون يقتلون كل من يلتقون به من الأسرى. 

المرحلة الثانية: كانوا يأخذون الأسرى إلى أن اكتملت طاقتهم الاستيعابية. 

المرحلة الثالثة: كانوا يبدلون بعض الأسرى مقابل " البطيخ".

عربات الحيوانات

يقول رمضان عراقي- جندي إشارة 1967:

"كانوا يضعوننا في العربات مثل وضعهم للحيوانات، كانوا يعاملوننا بمنتهى القسوة. وضعونا في بعض قطارات البضاعة المغلقة بالكامل التي لا يمكن التنفس فيها، وكان في العربة الواحدة ما لا يقل عن 200 إلى 300 شخص."  

ويؤكد هذه الشهادة أمين عبد الرحمن- ضابط صف مشاة 1967 إذ يقول:

"كانوا يحملون الأسرى في عربات نقل الحيوانات وعندما يكتمل العدد يقومون بقتل البقية."

بعد الوصول إلى المعسكر

يصف رمضان لحظة دخول الأسرى إلى المعسكر :

“كانت الأرض مليئة بالأشواك فكنا نمشي ونتوقف من شدة ألم تلك الأشواك، وكانت الدماء تنزل من أرجل الأسرى، وعندما طالبنا ببعض الأكل لسد الجوع كانوا يرموننا ببعض قشور البرتقال وقمنا بأكلها من شدة الجوع، كنا نقف على البلاط البارد طوال الليل وفي النهار يأمروننا بالوقوف في الشمس.

كان في كل عنبر 100 شخص وكانت مساحته حوالي 100 متر، وكان كل منا يضع ظهره مقابل ظهر الآخر أثناء النوم من أجل التدفئة، كانت توجد دورة مياه واحدة ل 8 عنابر وكانت دورات مكشوفة وكان الكل يجلس بجانب الآخر فيها بلا غطاء أو ستار، وحنفية ماء واحدة لجميع العنابر، وكان كل 12 شخص يأخذون رغيفا يقسم فيما بينهم.."  

 

ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا تجرد الإسرائيليون من الإنسانية إلى هذا الحد؟ 

هذا السؤال يجيب عليه بورام بنور من التلفزيون الإسرائيلي المستقلحيث يقول:

"الإسرائيليون اليهود محوا الكيان العربي لم يعترفوا به ولم يعترفوابالرجل العربي كرجل له طموحات ولديه عائلة، لم يعترفوا بإنسانية العربي، من هذا المبدأ نظر الجنرال بيرو إلى أن قتل العرب يعتبر بالأمر السهل".  

 

الحكومات المصرية ضيعت كرامة الأسرى

يقول المؤرخ الإسرائيلي موتي غولاني: "إننا نحن الإسرائيليين ما زلنا نبحث عن أسرانا منذ 48 وهذا ما لا نجده في العالم العربي".

فلو تعاملت الحكومات المصرية بجد مع ملف الأسرى لاختلف الوضع لكنها سكتت وميعت الملف من أوجه منها أولا توقيعها لمعاهدة "السلام" التي أعطت إسرائيل شعورا بالأمان وأخرجت ملف قتل الأسرى من صفة جرائم الحرب إلى قضية تناقش ثنائيا بالطرق الدبلوماسية، خاصة أن إسرائيل ادعت أنها سلمت المصريين نتائج التحقيقات المتعلقة بقتل الأسرى.

وأكثر من ذلك رفض القضاء المصري دعاوى رفعها بعض ضحايا الأسر بحجة عدم الاختصاص وكأن الحكومة المصرية تريد نسيان الموضوع.

ومن الأدلة على عدم اهتمام الحكومة هو رفض السفير المصري السابق في تل آبيب الإجابة على أسئلة الجزيرة حول ملف الأسرى.

 

مكافأة الأسرى

يقول أمين عبد الرحمن إنه لما رجع من الآسر في رحلة مغامرة شاقة وتمكن من الحصول على مواقع عسكرية إسرائيلية قابله الرئيس جمال عبد الناصر وأعطاه بعض النقود في جيبه.

قيمة الأسير المصري 18 جنيه

ويقول أمين عبد الرحمن أيضا إن الأسرى لم يحصلوا على تعويض والدولة لم تقدم لهم سوى شهادة معافاة مع 18 جنيه !!! كل هذا بعد عودتهم من رحلة معاناة شاهدوا فيها زملاءهم يقتلون ويسحقون بدم بارد وعانوا من صنوف العذاب.

واكتمل ملف الأسرى بإحالته إلى وزير الخارجية المصري الأسبق أبو الغيط المعروف بصداقته لإسرائيل وهو الذي هدد الفلسطينيين في غزة وحذرهم أكثر من مرة. 

ولتوضيح الصورة لنقارن بين مصير الجندي المصري سليمان خاطرومصير الجنود الإسرائيليين الذي ذبحوا المصريين بدم بارد.

طوي ملف الأسرى المصريين – على الأقل من الناحية العملية – ولم يعاقب جندي ولا ضابط ولا قائد إسرائيلي.

أما الجندي المصري سليمان خاطر فكانت له قصة مغايرة.

كان سليمان في الحراسة على الحدود المصرية فلاحظ أن مجموعة من الإسرائيليين تحاول تسلق الهضبة التي تقع عليها نقطة حراسته فأطلق رصاصات تحذيريه ثم أطلق النار عليهم حيث إنهم لم يستجيبوا للطلقات التحذيرية فقتل منهم سبعة أشخاص.

وتحركت إسرائيل وأمريكا للضغط على الحكومة المصرية بشأن موضوع سليمان فحوكم وصدر بحقه حكم بالسجن المؤبد، ثم وجد بعد ذلك مشنوقا في زنزانته في ظروف غامضة..

وليس هذا كل القصة فقد دفعت الدولة المصرية تعويضات مالية لأسر القتلى الإسرائيليين،

أما الإسرائيليون الذين ذبحوا وقتلوا الأسرى المصريين بدم بارد وبحضور موشى ديان في بعض الحالات فلم يحاكموا جنديا ولا ضابطا ولا قائدا ولم يعوضوا مصريا ولا عربيا..

وشتان ما بين الصورتين.

من يهن يسهل الهوان عليه .. ما لجرح بميت إيلام

جرائم الحرب لا تتقادم

قاعدة التقادم لا تنطبق على جرائم الحرب فإسرائيل لا زالت تطارد النازيين بعد عشرات السنين من تاريخ الحرب العالمية الثانية بينما تثار مسالة التقادم فيما يتعلق بجرائم إسرائيل في حق الأسرى المصريين. 

ولو كانت الحكومات المصرية جادة في احترام مواطنيها لتابعت القتلة الإسرائيليين قانونيا حتى تأخذ للأسرى حقهم ولمصر ثأرها وكذلك لأخذت رأي الأسرى المصريين قبل توقيع اتفاقية كامب ديفيد وأيضاقبل التطبيع مع إسرائيل.

يقول الفنان المصري محمد صبحي :

"أنا لو أخذت بدمقراطية رأي المواطن في السلام فأول من سآخذ رأيه هم العائدون من هذه المذلة والتعذيب، لا أحد يوافق على الحرب لا أحد يطالب بالحرب، نحن نسعى إلى السلام ولكن ليس سلاما مقابل الأرض فالأرض حق فمن أراد السلام عليه أن يعيد الأرض أولا ثم نتحدث في السلام."

 

 

وصلى اللـه وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه

2

خميس, 16/07/2020 - 17:23