أرى رؤوسا قد أينعت... عن خطورة دور صائدي الرؤوس

عنوان المقال يعيد إلى الأذهان قصة صاحب المقولة الشهيرة: "إني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها". لقد كان الحجاج بن يوسف سياسيا محنكا وقائدا عسكريا فذا. وكان رجل دولة ذا شخصية قوية بوأته الصدارة وأكسته ثوب المهابة فلم يجرأ أحد على التطاول عليه أو الوقوف في وجهه. وقد تناقلت الأجيال مقولته هذه جيلا بعد جيل ورب مبلغ أوعى من سامع. لكن الرؤوس التي أريد الحديث عنها ليست رؤوس الحجاج التي أراد اجتثاثها بسيفه، وقد فعل، بل هي رؤوس تحمل داخلها أدمغة تفكر وتبدع وتبتكر...

في الغرب يستخدمون مصطلحا قد يبدو غريبا على بيئتنا: " صائد الرؤوس Chasseur de têtes" وهو مصطلح كان يطلق على المرتزقة الذين يتعقبون المجرمين الذين أهدرت العدالة دمائهم ورصدت مكافأة مالية لمن يأتي بهم أحياء أو أمواتا. فإذا لم يظفر المرتزق بالمجرم إلا بقتله فإنه يقطع رأسه ويحمله إلى القاضي لكي ينال مكافأته. أما اليوم فإن المصطلح يطلق على شخصمتخصص في مجال الموارد البشرية تكلفه الشركات الكبرى بالبحث عن موظفين ذوي مهارات عالية. وتتمثل مهمة صائد الرؤوس في البحث عن المواهب التي غالبًا ما تكون في مناصبأخرى وإقناع هذه الكفاءات النادرة بأن هناك فرصة عمل أكثر إثارة ومنفعة تنتظرهم في مؤسسة أخرى. في عالم يمتاز بالمنافسة الشرسة بين الشركات وبين الدول لجذب الأدمغة الخلاقة ذات الكفاءة العالية والإنتاجية المرتفعة يكون دور صائد الرؤوس جوهريا في هذه المعركة المستمرة التي لا تتوقف. ومن تداعيات هذه المنافسة الشرسة والطلب المرتفع على أصحاب المواهب والمهارات العالية ما نلاحظه من هجرة للأدمغة من الدول النامية إلى الدول الغنية. فالغرب يفتح أبواب مؤسساته التعليمية أمام المتفوقين من أبناء الدول النامية وما إن تتجلى مظاهر النبوغ على أحد هؤلاء حتى تبتلعه سوق العمل الغربية بعروض مغرية تسيل لعاب طالبي الوظائف.  والحقيقة أن الغرب يتخذون من المثالية مبدأ في العمل فهم يبحثون دائما عن الأفضل ولا يكتفون بالمفضول في وجود الأفضل. ويمكننا من خلال المقولات الثلاث التالية أن نتلمس مدى اهتمام الغرب بالكفاءة والخبرة والموهبة وحب العمل. المقولات الثلاث لثلاثة من رجالات السياسة والأعمال هم جون كينيديJ. F. Kennedy، وارن بافيت Warren Buffett و روس بيرو Ross Perot . يقول جون كينيدي: "إن مهارة حسن التدبير والنجاح هو أن تحيط نفسك بالمتميزين". ويقول وارن بافيت: "عندما تقرر تعيين أحد في وظيفة، فعليك أن تتأكد من أنه يتمتع بثلاث صفات: النزاهة والذكاء والطاقة، وإذا كان يفتقر إلى الصفة الأولى، فستكون الصفتان الأخريان وبالا عليك". أما روس بيرو فيقول: "عندما أريد تشكيل فريق عمل فإنني أولا أبحث عن أناس يحبون النجاح، فإذا لم أعثر عليهم،فإنني عند ذلك أختار أشخاصًا يكرهون الفشل". 

وقد يقول قائل ما لنا وللتقاليد الغربية أليس في موروثنا الثقافي الإسلامي ما يغني عن ثقافة الآخر؟

أقول هذا صحيح لكن لا مانع من الاستفادة من ثقافات الغير وتجاربهم الناجحة وكما هو معلوم فإن الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها. ولا بأس والحال هذه أن نلقي نظرة على مفهوم الكفاءة والأهلية في العمل في مجتمع مسلم. نجد في القرآن العظيم ما يشير إلى ما يمكن أن نسميه المعايير الأساسية في الإدارة والموارد البشرية وقد ورد ذلك في سورة القصص من قصة موسى عليه السلام عند قوله تعالى: " إن خير من استأجرت القوي الأمين" فقد حددت الآية الكريمة معيارين أساسيين يجب توفرها في العامل أو الموظف ليتمكن من أداء عمله على أحسن وجه. وقد ذكر العلماء أن القوة في الآية هيالقدرة أو الكفاءة بحسب طبيعة العمل أما الأمانة فهي مطلوبة في كل عمل.  ونجد في السيرة النبوية أمثلة كثيرة على مراعات الكفاءة في اختيار الرجال بحسب المهام الموكلة إليهم. ولذلك نجده ﷺ يختار خالدا بن الوليد في المهام الحربية لعلمه بخبرته وتميزه في هذا المجال. وفي حال آخريمتنع ﷺ عن تعيين أبي ذر الغفاري لما طلب الإمارة معللا قراره بقوله ﷺ: " يا أبا ذر إني أراك ضعيفا ..."  وقد ولى على سرية عمرو بن العاص وفيهم عمر وأبو بكر رضي الله عنهم. 

وهذه كلها معطيات تدل على أنه ﷺ كان يراعي في اختياراته الأكثر خبرة وكفاءة ولا ينتقص ذلك من فضل بقية الصحابة رضوان الله عليهم.

ومن المهم هنا أن نعلم أن كون الشخص أمينا فذلك لا يأهله وحده للعمل لأن العمل يتطلب خبرة وكفاءة ولا يمكن إنجازه بالأمانة وحدها. وكذلك الكفاءة والخبرة إذا لم يكن صاحبهما أمينا فلن يتم إنجاز العمل لأن من تمت توليته يفتقر إلى النزاهة والإخلاص.

هذا وليس من العيب أن يبرز المرء خبرته وكفاءته ولو لم يُسأل عنها إذا كان قصده أن يضعها في خدمة المجتمع. ولنا في يوسف عليه السلام خير مثال فقد قال لما استقبله ملك مصر وحاوره: " قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ". وقد ذكر العلماء أن هذه الآية أصل في جواز طلبالوظيفة ونحوها لمن يعلم من نفسه القدرة على القيام بحقوقها، وأصل في جواز مدح الإنسان نفسه لمصلحته.

ولا يخفى على متتبع الشأن العام أن توجها جديدا قد بزغ في مجال توظيف الكفاءات الوطنية التي عوملت بالتهميش والإقصاء وخسر البلد كثيرا من أصحاب الكفاءات الذين جرفهم تيار هجرة العقول. وإنني أدعو أصحاب الكفاءة والخبرة من أبناء الوطن وبناته أن يتحلوا بالصبر والتفاؤل وأن يشرئبوا بأعناقهم ويرتفعوا بها عاليا عسى أن يقتنصهم صائدو الرؤوس.

 

خميس, 02/07/2020 - 19:54