الفساد داخل المؤسسات: الأسباب، العوامل المساعدة وسبل المكافحة

الفساد اختلال ناجم عن تسيير معيب أو غير مستقيم، يمثل التحايل إحدى تجلياته الرئيسية.

التحايل هو كل عمل يبتغى منه صاحبه مغالطة، أو إلحاق ضرر بغيره أو تحوير قاعدة أو نظام قانوني عن طريق سلوك حاذق. والتزوير والاختلاس والمغالطة، هي بعض من أوجهه.

 

هذا ويلاحظ أن التحايل الذي يتم من طرف الموظفين داخل المؤسسات مسألة متواترة. 

 

لماذا إذن يتحايل الموظفون والمسؤولون؟

 

 

أسباب التحايل داخل المؤسسات:

 

خلص باحثون إلى أن التحايل داخل المؤسسة لا يرتبط بالفرصة السانحة له بقدر ما هو على علاقة بتحفيز واستعداد من يقوم به: وبقدر ما يكون هذا الأخير ممتعضا أو غير راض ، بقدر ما يكون ميالا إلى سلوك انحرافي.

ويصف بعضهم الظاهرة بأنها نوع من "المكافأة الإضافية أو التكميلية" التي يدعي الموظف الذي يحس بالغبن أحقيتها، ذلك أن كل فرد مشبع بمقدار قيمته الذاتية، وكل شعور بمكافأة غير عادلة يعرضه إحصائيا، إلى العمل على ترجيح الكفة لصالحه.

 

ثمة نظرية أخرى لا تبتعد كثيرا عن الأولى، ترجع سبب التحايل داخل المؤسسات إلى الضغط أو الإكراه المالي الذي قد يتعرض له الموظف.

 

وقد قام دونالد ر. كرسي (Donald R.Cressy) وهو أخصائي إجرام، بتحريات شملت مائتي مدان باختلاس أموال وخلص إلى أن التحايل يحصل في أغلب الأحيان من أجل تلبية احتياجات مالية ملحة، كما لاحظ تواتر عنصرين أثنين هما:

 

  • من ناحية، الفرصة المتاحة للموظف ليتحايل ثم يتمكن من التستر على فعلته.
  • ومن ناحية أخرى، إمكانية أن يعقلن ويبرر ذاتيا صنيعته بكونها لا تمثل عملا انحرافيا مشينا.

 

قدم مارك سيمونس (Mark R. Simmons) الخبير في مجال المراجعة الداخلية والتدقيق، الصورة النمطية التالية للمتحايل داخل المؤسسة:

 

-    هو فى الأساس رجل بدل امرأة (هنيئا للنساء على استقامتهن!)

-    ذكي ومغرور بنفسه (يتحدى الأنظمة المؤمنة، لا يطيق العمل الروتيني، يستخف بالاختلالات البينة في الرقابة، والتنافرات الإدارية...).

-    متحر مدقق (يهتم باكتشاف قابلية نظام ما أو برنامج حاسوب مثلا للعطب والثغرات).

-    مغامر، يهوى الإخلال بالقواعد وبالسلطة (ميال إلى الالتفاف على القوانين واللوائح التنظيمية، وركوب المخاطر).

-    مجتهد في عمله الوظيفي لايكاد يكل، يحب سلك الطرق المختصرة، أول من يحضر إلى العمل وآخر من يغادره غالبا، نادرا ما يذهب في الإجازة.

-    يوجد تحت ضغط (أزمة شخصية، ضائقة مالية، معضلة أسرية).

-    كثير التذمر، ميال إلى التشكى (مشبع بروح الانتقام ويسعى للحصول على ما يعتبره حقا له).

 

اقترح دونالد ر. كرسي (Donald R.Cressy) في أربعينات القرن الماضي، مفهوم مثلث التحايل كالتالي:

 

وخلص إلى أنه بإمكان أحدهم أن يتحايل كلما كانت العناصر الثلاثة التالية مجتمعة:

حاجة مالية ملحة، وقناعة بإمكانية تلبيتها بفعل التحايل، ثم سهولة تبرير وعقلنة هذه الفعلة

وهكذا نرى أن كل احتيال يستند إلى عناصر ثلاثة هي: الضغط والفرصة والتبرير.

 

سوف نعالج فيما يلي، سبل فك الضغط على الموظفين ثم نعرض لإمكانية تقليص فرص الاحتيال داخل المؤسسة أو الحيلولة دونها، ونتطرق أخيرا إلى تلافي إمكانية إن يزيل المتحايل شعوره بالذنب اتجاه صنيعته. بشكل مبسط، يتعلق الأمر بتفكيك أضلع مثلث الفساد بطريقة ممنهجة:

 

يمكن تخفيف وطأة الإكراه وتفادي إمكانية عقلنة التحايل ذاتيا (من خلال استحقاق مزعوم لم تتم مكافأته) عن طريق تصور منظومة جزاء وعقاب متكاملة أو ما يعرف بسياسة الجزرة والعصا.

 

مجازاة الكفاءة والاستقامة:

 

يحيلنا هذا الوجه من ناحية، إلى ضرورة توزيع المهام على أساس معايير موضوعية مثل الكفاءة والاستقامة والتفاني لأخلاقيات المهنة، ومن ناحية أخرى، إلى التحفيزات التي يمكن منحها من أجل الحث على المناجزة.

 

يجب أن تكون غاية كل عملية اكتتاب وضع الرجل المناسب في المكان المناسب، كما يجب شكران وتثمين إتقان وحسن أداء العمل عن طريق منح أجور عادلة، ومكافآت تحفيزية قد تأخذ شكل تنويهات تشريفية، أو منح أوسمة وعلاوات.

 

وفي هذا الإطار يطلب من الراتب أن يكون في مستوى يوفر حياة شريفة تجعل الموظف بمنأى عن الإغراءات الانحرافية. ذالك أنه في سلم ماسلو (Maslow) للضرورات، تمثل غريزة البقاء (الضرورات الفيزيولوجية) أول حاجة يسعى الفرد إلى تلبيتها. وتحديدا، أثبت هوفمان(Hoffman ,1975) وجود علاقة تراتبية وطيدة بين إشباع الاحتياجات الشخصية أولا والاستجابة ، في مرحلة لاحقة، لتطلعات الغير،التي هي  أساس الاستقامة. 

 

إن مقاومتنا للضغوط التي تتسبب في التحايل مرتبطة ارتباطا وثيقا بمدى استقامتنا ودرجة أخلاقياتنا، وهذه الأخيرة تخضع لمنطق نمو إدراكنا للمعضلات الأخلاقية، كما أشار إلى ذلك صاحبا نظرية التطور الإدراكي للأخلاق (développement cognitif de la morale)  

  جان بياجي (Jean Piaget,2002) وكوهلبرك (Kohlberg,1969) في استشهاد من برات. ك. (2002Prat C.,): "في المستوى ما بعد الاصطلاحي (post-conventionnel) الذي يمثل ضمنه المستوى الدوني السادس درجة النضوج الأخلاقي الأكبر، ينقاد الفرد في سلوكه لمبادئ وقيم شمولية ".

 

إن النية القطعية التي تسمح بالولوج إلى الدائرة الأخلاقية ما بعد الاصطلاحية، كما أشرنا إلى ذالك آنفا، مقترنة بانحراف المراكز المتمثل في التحول من الأنا أو الذات إلى الإيثار ((décentration sociale  كما في قوله تعالى في سورة الحشر:  "ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة" أو من قبيل قول الشاعر:

 

فلا هطلت علي ولا بأرضي

 

سحائب ليس تنتظم البلادا

 

غير أنها من منظور المجتمعات المادية تتطلب من الفرد، كما سبق، أن يكون قد أتم إشباع احتياجاته الشخصية أولا (  Hoffman ,1975باستشهاد من أرتود Artaud, 1985) حتى يتفرغ لتطلعات غيره. 

ويذهب بنا هذا إلى التأكيد على أن تظل وظائف المسؤوليات حكرا على موظفين رفيعي مستوى التكوين مما يؤهلهم للتحلي بأخلاقيات منيعة. على أننا نسلم  بأن ا لضرر قد يكون بالغا إذا ما انحرف أحدهم.

 

الرقابة ومعاقبة التحايل:

 

يـبحث المتحايل دائما عن مسوغ لعمله، فيحاول تبريره ليحيد عن ذاته الشعور بالذنب حتى يكون مرتاح الضمير.

 

 وتأخذ محاولة العقلنة هذه أحد الشكلين التاليين:

 

-    ردة فعل سلبية إثر أجر يعتبره الموظف غير عادل، أو نتيجة عدم تثمين مجهوده وذلك بروح الانتقام أو إنتزاعا لحق مزعوم. 

 

-    إمتثال بغيره ممن ظل تحايلهم بدون عقاب أو لم يكن عقابهم على مقدار ما

اقترفوه، وذلك من باب "لم لا أنا؟" أو " أنا ومن بعدي الطوفان"، وكأن لسان حاله يقول: 

إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر.

 

وهي مواقف نجدها في دول العالم الثالث حيث فريضة الحفاظ على الأموال العامة لم تترسخ بعد في أذهان الكثيرين.

 

 يمكن تجنب أوجه العقلنة والتبرير هذه عن طريق:

 

-    شكران وعرفان للفرد على إتقان عمله كما أسلفنا، 

-    إنشاء ثقافة مؤسسية تكرس نظاما محكما للقيم والأخلاق، 

-    استحداث نظام تجريم يشكل رادعا كافيا، على أن ينطبق على الجميع، دونما استثناء أو تمييز، وكما يقول أكتاف جلينيى (,1991Octave Gélinier) "لا أدبيات من دون عقوبة".

 

وفي هذا السبيل يجب رد الاعتبار لأجهزة الرقابة وتقلدهم مهمة مكافحة الفساد، كما يجب أن يشمل دور مراجعي الحسابات مهمة التحري عن التحايل، أسوة بالنزعة الحالية في أوربا وأمريكا، عقب سلسلة الفضائح المالية التي شهدتها السنوات الأخيرة.

 

كما يمكن تحرير المواثيق ومدونات الأخلاق والأدبيات الخاصة بالمؤسسات – على أن يتم إمضاءها من طرف الموظفين عند الاكتتاب ترسيخا لانخراطهم الصريح - مع تبيان المسلكيات المعيبة التي قد تكتسي طابع الاحتيال أو تؤدي إليه: تعارض في المصالح، رشوة، حالات سوء استعمال المال العام أو المال الخاص، تزوير أو استخدام مزور، إلخ...

 

وهكذا وانطلاقا من طابعها الملزم نتيجة اعتمادها من طرف الموظفين، تمثل هذه القواعد الأخلاقية سببا ومبررا لمعاقبة كل من تسول له نفسه مخالفتها. 

 

وتمثل برمجة دورات تحسيسية لصالح الموظفين حول مكافحة التحايل حلا لا يستهان به كذلك، إلا أنه على الإدارة تحاشي الظهور فقط بمظهر المصلح الأخلاقي الواعظ وتفادي الإقتصار على التهديد بمعاقبة الانحرافات.

كما يمكن عرض أمثلة حية لمعضلات أخلاقية للمناقشة، وتدارس نفسية المتحايل مع التأكيد هنا على أن الفساد ليس حكرا على غير الطيبين من الناس، فحتى الحاذقون الذين يتصفون بالاستقامة الظاهرية قد ينحرفون كما رأينا سالفا (راجع أنتروبولوجيا المتحايل أعلاه).

وأخيرا يلجأ بعض المؤسسات كالبنك الدولي مثلا إلى إقامة خطوط ساخنة لمركزة واستقبال المسارَات بالشكاوى والإفشاءات بعمليات التحايل التي يتم التبليغ عنها بسرية تامة مع حماية مضمونة للمبلغ وحتي مكافأته.

 

إن من شأن العمل بمبدأ U  في مذهب العمومية (principe U de l’ universalité) كما يصفه هابرماس (Habermas) - والذي ينص على أن العواقب والنتائج الجانبية التي  قد  تحصل  نتيجة تطبيق الضوابط خدمة لكل فرد، تهون   في   سبيل ذلك   - أن يمكن من تقبل هذه العواقب عن طيب خاطر من طرف الجميع ، وهو ما يساهم في إنجاح مواثيق الشركات. ذلك أن صياغة الأدبيات يجب أن تبتعد عن الطابع القسري كما أنه لا يسعها الإحاطة بجميع المسلكيات الممدوحة أو المعيبة، ولا شيء يماثل قيما مشتركة يتم تطبيقها بصفة إرادية.

 

المكافأة والعقاب يتناغمان كما رأينا، مع وجود الضائقة ومحاولة تبرير الفعلة المعيبة ذاتيا.

 

ماذا إذن عن فرص اقتراف التحايل؟

 

فرص التحايل والمسلكيات التي تسهله:

 

يمكن تفادي تيسر فرص التحايل نوعيا، عن طريق إحكام أنظمة الرقابة الداخلية. فإذا أحكمت الرقابة ومررت القيود المحاسبية المناسبة أمكن تقليص فرص الاختلاس.

وفي هذا المجال، يلزم الفصل بين المهام المتعارضة. فلو أن أحدهم على سبيل المثال مُكن من مسك الدفاتر المحاسبية وحفظ الأصول، فإن قدرته على الاختلاس ليس لها من حد إلا خياله الشخصي. أما إذا كان يتقاسم هذه المهام مع غيره، فإن حظوظ نجاح مخططه التحايلي تصبح ضئيلة.

وإذا استدعى تحايل أحدهم مساعدة من غيره (في إطار روابط وظيفية تراتبية مثلا) فإن ذلك يشكل مانعا لا يستهان به. عمليا، يجب فصل مهام الترخيص، والتسجيل، والحفظ والرقابة، حيث أن الجمع بين إثنتين منها أو أكثر يتيح فرصة الخيانة في الوظيفة ويسهل التستر عليها. 

ثمة مواقف ومسلكيات انحرافية تشكل أرضية خصبة للإحتيال وأهمها المحسوبية والزبونية ومحاباة الأقارب والاتجار بالنفوذ وحالات تعارض المصالح، إذ تساعد هذه المسلكيات والوضعيات على مباشرة التحايل أو التستر على أصحابه.

 

و في هذا الخصوص،  تمكن موظف سام للأمم المتحدة إبان خدمته في دول جنوب شرق آسيا من الإطلاع عن كثب على مدى الفساد الذي ضرب بها أطنابه في فترة سابقة، ثم أتيحت له فرصة العمل لاحقا في الدول الإسكندنافية حيث لا حظ الاستقامة في أداء الإدارة، فخلص إلى أن نمط سلوك الفرد في المجتمع ومدى الارتباط به  يمكن أن يكون عاملا مساعدا على الرشوة والاختلاس. فحميمية العلاقة ووشائج القربى التي توجد في آسيا وتكاد تنعدم في اسكندينافيا - حيث البرودة حتى اجتماعيا- كانت وراء هذا الاختلاف في المسلكيات.

 

إن التصدي للمحسوبية ومحاباة الأقارب وتجنب المواقف التي تتضمن مخاطرة أخلاقية (aléa moral) واجبنا جميعا. ونذكر من ضمن هذه المواقف:

 

-    وضعية المسير الحاصل علي وظيفة آمنة يستحيل فصله منها حتى وإن انحرف، وذلك هو الحال عندما يتم تعيينه بضغط من عشيرته التى تؤويه، أو جماعة ناخبين يستجدى ودهم، أو عند ما يتمتع بحماية قربى من رئيسه في الوظيفة.

-    عدم ربط الوضعية الإدارية للموظف أو تمويل المشروع بنجاحه ونوعية تسييره.

-    غياب مسؤوليات تسييرية محددة المعالم. 

 

يجب على الإرادة السياسية أن تعاقب بقسوة كل من يقترف تحايلا وأن تستحدث لذلك نصوصا قانونية جديدة أو تلائم النصوص الموجودة مع ضرورة ردع المسلكيات المعيبة الانحرافية.

 

وعلى سبيل المثال، وفي مجال المهام المتعارضة قانونيا التي تنص عليها المدونة التجارية والمتعلقة بمراجعي الحسابات القانونيين، فإننا نأخذ على المشرع توقفه عند حد القرابة والمصاهرة من الدرجة الثانية رغم ما لوشائج القربى من أهمية في مجتمعنا. ونلاحظ هنا أن المدونة التجارية لم ترق إلى مستوى الأمر القانوني 09/2000 المنظم للمؤسسات العمومية والشركات الوطنية والذي وسَع مجال تعارض المصالح ليشمل القرابة والمصاهرة من الدرجة الرابعة.

 

فوق هذا وذاك، فإن استقلالية أجهزة الرقابة هي أساسا مسألة مواقف ونوايا، إذ يجب أن تكون في آن واحد معمَمة ودائمة:

 

-    معمَمة حيث يمكن تعريفها بأنها الحرية الروحية اتجاه جميع الإكراهات والسلطات الخارجية.

-    دائمة بمعنى أن المراقب يلزمه التنبه لجميع الوضعيات والمواقف التي من شأنها المساس باستقلالية حكمه الذي يجب أن يظل مطلقا وكاملا.

 

أحمد شريف ولد شيخنا

مجاز في الدراسات التجارية العليا

خبير محاسبة مجاز

أستاذ جامعي

أحد, 07/06/2020 - 17:41