رسالة إلى حبيب ولد محفوظ.. من صديقه مروان!

عزيزي حبيب،

 

لقد كتبت هذه الرسالة على كراسٍ مدرسي تماماً، كما كنتَ تحبُ أن تكتب مقالاتك "الموريتانيد"، كنت أريد أن أقلّدك، لكن ليس من السّهل أن تشبه حبيب أبداً..ورغم ذلك لا زلتُ أتمنى أن أحصل على القليل من الإلهام حتى أجد من الكلمات ما أحكي عليك به أخبار المدرسة، لكن لا أعني هنا بالمدرسة، مدرسة النيفرار، أو أطار أو لعكيلات أو بوكي، لأنها لم تعد موجودة، وإنما طويت وشحنت في أكياس مالبورو، وأرسلت على متن سيارات تويتوتا عابرة للصحراء، كُتب عليها بالحبر الأحمر: عفش المفتش لنوبل والسيد أنجوارا صار. نعم لقد توجهت هذه المدرسة نحو الشمال، سالكة الطرق الصحراوية تماماً، كما كانت تفعل قوافل أيام زمان.

 

اليوم القوافل من "لاندكريزير" الجديدة الهادرة، تمتد على الطريق متهادية على رمال لامتناهية، وأصحاب القوافل من صيادين وتجار، وقطاع طرق ومهربين، من مختلف الأنواع، يقطعون هذه البلاد السائبة طولاً وعرضاً، مشكلين أخطبوطاً من الناقلين والأدلاء، والمغامرين والفارين من العدالة، والمزورين ومبيضي الأموال.. الفرق الوحيد بينَ القوافل قديماً وحديثاً، هوّ أن ذهب الجنوب تحول إلى خردةٍ بلون رمادي، وأًصبحت خردة الشمال لها لون اليورو الذهبي، وعندما دارت عجلة الحظ ربح الشمال أرباحا خيالية، انعكس بريقها على مرايا الصحراء، فظهر وجه الجنوب جاثماً في تعاسته المُتزايدة..ولو عاش البكري في هذا الزمان، لصحح معلوماته عندما كتب في بلاد الغرب ينبت الذهب كما ينبت الجزر.. فقد انتهى الأمر ووضع الديكور لمسلسل "الشمال والجنوب" الذي يمثل الملحمة الجديدة للصحراء.

 

ما الذي كنتُ أحدّثك عنه؟ أه نعم.. إنها المدرسة، لقد ذهبت بالأمس، لأتقصى أخبارها لك، كان البحث مضنياً، لكن في النهاية، وجدت البعض منها، وإليك نموذجاً مما وجدته..

أول ما وقعت عليه، كان مدرسة حرة، ترددتُ أولاً في دخولها لأني مندهش، فالمدرسة مدرسة فقط، ولست أدري كيف تكون حرة، أو خاصة، ولماذا ليست عمومية، ومن المحرومين منها، أم أنها هي المحرومة، وهنا حاولتُ إجراء جرد صغير لحرمان كبير:

- في هذه المدرسة، لا توجد ساحة، بالتالي لا توجد راحة، وبما أنه لا توجد راحة، لا حاجة بالتالي إلى وجود مراقبين، ولا إلى تلاميذ يلعبون أو يعربدون، أو تلميذات يصفقن. وبما أن المدرسة محرومة من الساحة والراحة، وما يتعلقُ بها، أصبح التلاميذ كالموظفين يأتون في أوقاتٍ محددة ويعودون إلى بيوتهم في ساعات محددة.

- في هذه المدرسة، لا يوجد مدرسون ولا معلمون، بل بدل ذلك عمال كادحون يطلق عليهم اسم "المتفرغون" وبما أنه لا يوجد معلمون ولا حاجة لوجود سبورات أو طاولات، ومقاعد ودفاتر للتحضير يوقعها المدير اسبوعياً، ويوقعها المفتش عند كل جولة..إذن هكذا هيّ المدرسة، محرومين من معلمين وطاقم تأطير.

المعلم المتفرغ هو كائن جوال، ودوار، وهكذا لا يستطيع أن يعرف تلاميذه، ولا التلاميذ يستطيعون معرفة معلمهم، لكن الأسوء مجيء عنصر غريب على الإثنين، إنه المحاسب. المعلمون يطاردون المحاسب، والمحاسب يطارد التلاميذ ليدفعوا له المستحقات الشهرية، وهكذا أصبحت هذه اللعبة التجارية للقط والفار هي الحياة الوحيدة للمدرسة المحرومة، عفواً الحرة. 

- في هذه المدرسة لا توجد الدفاتر التبادلية، لأن التلاميذ أنفسهم، هم ومعلميهم من يتبدل، وطبعاً كذلك أهلهم، وحتى وزارتهم. 

-في هذه المدرسة الحرة، يدخل التلاميذ إلى الأقسام كدخولهم السوق، ويخرجون منها كما يخرجون من السجن..

- في هذه المدرسة الحرة، لا توجد أقلام حبر، ولا محابر، ولا مناشف، ولا أوراق وردية لتغليف الكتب والدفاتر، والتلاميذ يحملون من أوعية الشراب والأكل، أكثر مما يحملون من الكتب.

التلاميذ يذهبون إلى المدرسة لأن عليهم أن يفعلوا ذلك، ويتجاوزون لأن عليهم أن يتركوا أقسامهم لأخرين، وأنه على المدرسة أن تحافظ عليهم في السنة القادمة، كي لا تدفع أهلهم إلى أن يدفعوا بهم إلى القسم الأعلى في مدرسة أخرى.

هذه المدرسة غير مجهزة بالوسائل التربوية، لكن لا يهم.. فيمكنُ للتلميذ إذا أراد أن يلجأ إلى الأنشطة المتنوعة للوزارة المكلفة بمحو الأمية والتوجيه الإسلامي والتعليم الأصلي.

ومهما يكن من أمرٍ، فلا مسابقات للوصول إلى الوظائف، اللهم إلا إذا كانت للشخص ذراع طويلة وسيارة فارهة ليست لها لوحة أرقام، ولا حاجة لها في تسديد ضريبة، أو تأمين.

- في هذه المدرسة الحرة لا يوجد دفتر للدروس، ولا دفتر للواجبات، أو دفتر للرسم، أو دفتر للأناشيد والمحفوظات، أو دفتر للذكريات أو حتى دفتر للغرام..لايوجد أي شيء من هذا كله ببساطة، لأنه لا توجد دفاتر، ربما توجد دفاتر طويلة من نوع "سبيس" يبيعها "تبتابون" سنيغاليون عند أيّ "مول بوتيك".. كما لا توجد محافظ ولا كراسي، لأن التلاميذ يجبُ أن يكونوا كالموظفين، الذين عندهم دفاتر التوقيعات، ودفاتر البنزين.

 

بعد هذا التحقيق خرجت من المدرسة بصدر واسع، وقد عرفت أنني كنتُ مخطئاً في حقها، لأن البنك الدولي كان قد حدثنا عن خصصة المدرسة، وأخبروني أنه توجد مدرسة أخرى، هي المدرسة العمومية وسوف أذهب إليها لأعرف ماهيتها. 

 

سورة الإخلاص أحد عشرة مرة ترحماً على روحك الطاهرة.

 

صديقك مروان. 

 

 

المصدر: مجلة القلم - النسخة العربية، العدد رقم 294. د.ت.

أربعاء, 03/06/2020 - 12:33