المخطوطات العربية في سجال السباق المعرفي

لقد دار جدل كبير حول إسهام التراث العربي الإسلامي في تقدم الحضارة الإنسانية من منطلق أن العلم شيء مشاع بين بني الانسان. ولنا أن نتساءل لا عن حقيقة إسهام العرب والمسلمين في تقدم الحضارة الإنسانية بل عن حجم تلك المساهمة وطبيعتها. فكيف يتسنى لنا ذلك وما هي الأدوات التي تمكننا من سبر أغوار الموضوع؟ 

إن أقرب الطرق وأيسرها هو إلقاء نظرة على التراث العربي الاسلامي المخطوط لمعرفة مضامينه الكبرى وقيمته العلمية ومدى استفادة الانسانية من ذلك. 

يتفق الجميع على حقيقة لا مراء فيها وهي أن العرب والمسلمين قد اهتموا بالتراث العلمي الإنساني الذي سبق ظهور الإسلام حيث عكفوا على ترجمته إلى العربية واعتماد مضامينه العلمية البحتة لدفع عجلة العلوم. هذا أمر يسلم به الموافق والمخالف. كيف تجلى ذلك؟ 

لقد وعى العرب المسلمون قيمة العلم في وقت حيث ابتعث ملوك الدولة الاسلامية علماء إلى مناطق شتى من العالم لجمع الأعمال العلمية وترجمتها. ولولا الترجمة لم يعرف العرب فلسفة الإغريق ولا آداب فارس والهند، وبالمقابل لولا الترجمة لم تعرف أوروبا، وهي في عصر الظلمة، منجزات العرب في الطب والكيمياء والهندسة والرياضيات... إلخ. لقد انطلقت الحضارة العربية والإسلامية في إنجازاتها العلمية العظيمة من ترجمة العلوم القديمة من هندية وفارسية ويونانية إلى العربية وذلك بشكل منظم ومخطط له على مستوى الدولة. كما أن النهضة الأوروبية قامت على أكتاف العلوم العربية واليونانية المنقولة للعربية بترجمتها إلى اللغة اللاتينية في القرن الثاني عشر للميلاد. 
لقد تبنى العرب التراث العلمي الانساني سواء منه الهندي أو الاغريقي أو الفارسي وقد أثبتت المخطوطات العربية اليوم صحة هذا الامر حيث أن   منهج الترجمة الذي اتبعه العلماء العرب خولهم ترجمة الكثير من الأعمال العلمية للأمم التي سبقتهم ولولا تلك الترجمة لضاع الكثير من المكتشفات العلمية المبهرة. ومن هنا تتجلى القيمة الكبرى للمخطوطات العربية الاسلامية التي تحوي مصادر قيمة لأصناف شتى من العلوم أسهم العرب في تقدهما بشكل كبير. ونخص منها الرياضيات والهندسة والطب والفلك.

ولايعني ذلك أن مساهمة العرب والمسلمين قد اقتصرت على مجرد النقل، فلقد أسهم العلماء المسلمون إسهامات جلا في تقدم العلوم.   لقد كانوا علماء يتمتعون بقدر عال من الموضوعية والتجرد العلمي.

وقد كان من تداعيات احتلال مدينة طليطلة الأندلسية المسلمة عام 1085م من طرف ملك قشتالةالمسيحي ألفونسو السادس والتي كانت تابعة للدولة الإسلامية منذ القرن الثامن أن ورث العالم المسيحي لأول مرة مدينة إسلامية بكل ما تضمه من تراث علمي دون أن يتعرض لأي تخريب يستهدف القضاء عليه أو يحاول طمس معالمه.

ومن هنالك بدأ العالم الأوربي مسار خروجه من فترة الجهل والظلمات القروسطية عن طريق استغلال المخطوطات العربية الإسلامية وما تزخر به من أصناف العلوم والفنون. ففي نفس العام الذي تم فيه احتلال طليطلة أنشأ القس ريموند الأول مدرسة للترجمة ودعا لها مفكرين من مختلف مناطق أوربا. فكانت أول ترجمة للقرآن الكريم إلى اللاتينية عام 1143م وترجم كتاب المختصر في حساب الجبر والمقابلة للخوارزمي عام 1145م في طليطلة.

وفيما يشبه السجال بين المسلمين والأوربيين انبعث مجددا اهتمام المسلمين بتراثهم المخطوط في عهد الدولة العثمانية حيث انتدب السلطان العثماني عبد الحميد الثاني العلامة محمد محمود ولد التلاميد (ت. 1904م) للسفر إلى أوربا للاطلاع على ما في مكتباتها من المخطوطات العربية.  ثم بعد ذلك بفترة وجيزة وجه ملك السويد والنرويج أوسكار الثاني رسالة إلى السلطان عبد الحميد يطلب منه إيفاد بعثة للمشاركة في المؤتمر الثامن للعلوم الشرقية بـاستوكهولم وأن يكون الوفد برئاسة محمد محمود ولد التلاميد. 

واستمر اهتمام الغرب بالمخطوطات العربية الإسلامية حيث نجد اليوم مخطوطات كثيرة محفوظة في المكتبات الأوربية والأمريكية وقد انبعث من جديد تيار الاهتمام بمضمونها. ففي كبريات الجامعات الأوربية والأمريكية بدأ منذ سنوات قليلة يتجدد الاهتمام بالتراث العربي الإسلامي المخطوط. وفي أوربا تتنافس مراكز البحوث والدراسات المهتمة بالمخطوطات بطرح مشاريع بحثية تهتم بالمخطوطات العربية وغالبا ما تنال تمويلات من الحكومات الأوربية. بل إن هناك مراكز أوربية عديدة متخصصة بشكل حصري في الاهتمام بالمخطوطات بما فيها العربية ومن أمثلتها معهد البحوث في تاريخ النصوص الذي يوجد مقره في باريس ويضم قسما خاصا بدراسة التراث العربي المخطوط. وفي هولندا تضم مكتبة جامعة ليدن قسما للمخطوطات يشتمل نوادر من كتب العلماء العرب والمسلمين فى شتى التخصصات وهي الآن محط اهتمام الباحثين المهتمين بالموضوع. وفي الولايات المتحدة الأمريكية بزغ اهتمام كبير بهذا المجال ومنه مشروع جامعة متشقن  لفهرسة شاملة لكل المخطوطات العربية .

في عام 2004 سافرت من باريس إلى تيمبكتو لهدف واحد وهو الاطلاع على النسخة الوحيدة حسب علمي من كتاب منح الرب الغفور في ذكر ما أهمل صاحب فتح الشكور، كان ذلك قبل استفحال ظاهرة الإرهاب مع أنها كانت قد بدأت فعلا في المنطقة. وصلت إلى تيمبكتو مرورا بمدينة باسيكنو الموريتانية. هناك في مدينة تيمبكتو المعزولة النائية التقيت بمجموعة من الباحثين الغربيين بقيادة الأستاذ الأمريكي جون هنويك (ت. 2015) وفريق عمله. كان القاسم المشترك بيننا هو الاهتمام بالمخطوطات. كان جون هنويك منشغلا بتنفيذ مشروعه الذي ابتدأه عام 1970 والهادف إلى جرد وجمع ونشر المخطوطات العربية في أفريقيا غرب الصحراء باستثناء وسط وجنوب افريقيا. لقد كان مشروعا عملاقا وعملا جبارا بالنظر إلى اتساع الرقعة الجغرافية وبسبب ندرة الأعمال التي قيم بها في هذا المجال. وفي عام 1980 انضم إليه الباحث النروجي ريكس سين أوفاهي المتخصص في أفريقيا الشرقية.  وقد أصدر هذا الثنائي أربعة مجلدات من الفهارس تغطي منطقة الساحل والصحراء من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر. أما المجلد الخامس فقد صدر بعد وفاة جون هانويك وقد أنجزه الباحث الأمريكي شارل ستيوارت من جامعة أيلينوا ويتعلق حصريا بمؤلفات العلماء الموريتانيين. ومن المهم الاشارة إلى بعض   الأعمال الرائدة التي كان لها السبق في مجالها ومنها كتاب المجموعة الكبرى لفتاوى غرب الصحراء للباحث يحيى ولد البراء.

لقد كنت، بحكم طبيعة تخصصي العلمي ذا صلة بمجموعات بحث حول المخطوطات العربية، على علمبالمنافسة الشديدة (لكنها إيجابية وتكاملية) بين الدول الأوربية في هذا المجال (فرنسا، إيطاليا، إسبانيا، النرويج…الولايات المتحدة) فما هو السر وراء اهتمام الدول الغربية بمراكز المخطوطات العربية في إفريقيا غرب الصحراء؟ هل يمكننا فهمه ضمن الفضول العلمي لدى الغرب؟ وهل كان يهدف إلى انتشال ذلك التراث المخطوط؟ وهل كان بمثابة استباق للأحداث قبل استفحال ظاهرة الإرهاب في منطقة الساحل الصحراوي وتعذر الوصول إلى مراكز المخطوطات في المناطق النائية؟

تلك قصة أخرى ،،،

د. محمد الأمين ولد حمادي

 أستاذ التاريخ بجامعة نواكشوط 

أحد, 17/05/2020 - 20:59