كبولاني أم المختار؟َ

لقد استطاعت فرنسا عقب غزوها الذي قاده كزافييه كبلاني لبلادنا فرض شيء من النظام والسكينة والهدوء طالما افتقرت إليه البلاد، لكنها لم تؤسس دولةً ولم تُقِم قواعدَ مؤسسات ولا هياكل بنية تحتية، خلافاً لما قامت به في باقي مستعمراتها الأخرى. لذا كان على بناة الاستقلال أن يؤسسوا الدولة الغائبة ويضعوا قواعد مؤسساتها المفقودة، وأن يختاروا لها اسماً وعلًما وشعاراً وعاصمة ودستوراً.. وأن يخلقوا الوزارات والإدارات والدواوين وقوات الأمن والجيش.. وأن يشرعوا بتشييد البنى التحتية والخدمية من مدارس ومعاهد ومستوصفات ومستشفيات وطرق ومطارات وموانئ وبريد ومواصلات وإمدادات ماء وكهرباء.. وأن يعملوا على تدبير الموارد المالية اللازمة لتسيير المؤسسات والأجهزة وضمان دفع الرواتب وتغطية النفقات. وإلى جانب معركة الإنشاء على الأرض، كان يتحتم عليهم أيضاً خوض معركة سياسية لكسب الاعتراف الداخلي، وأخرى لنيل الاعتراف الخارجي.. وفي كل هذه المعارك كانوا عُزّلا من كل شيء إلا الإرادة والتصميم والإخلاص والصدق.

ولا نكاد نجد في تاريخ الدول المستقلة حديثاً، لا في فضائنا الإقليمي ولا خارجه، حالةً شبيهةً بالحالة التي كانت عليها موريتانيا غداة استقلالها وما طبع ذلك الاستقلال من ملابسات جعلته يولد مُحاطاً بتحديات هائلة لا حصر لها: وضع داخلي بائس مادياً ومنقسم سياسياً بين التعلق بسلطة فرنسا والولاء لدول الجوار (الموالية هي أيضاً لفرنسا)، وموقف خارجي رافض لوجود الكيان الجديد باعتباره جزءاً من دولة أخرى قائمة أصلا.

صحيح أن فرنسا ساندت استقلالنا ودعمته، لذا كان الرئيس المختار حصيفاً وحكيماً (وقبل هذا؛ قائداً مسؤولا عارفاً بمقتضيات الضيافة) في توجيهه الشكر لضيفه الكبير ديغول على ما بذلته بلاده من دعم وحماية لخيار الاستقلال الموريتاني (مفارقة «المستعمِر المحرِّر» كما سمّاها).. لكن فرنسا لم تكن لتقدّم ذلك الدعم لولا أنها وجدت نخبةً موريتانية متحمسةً ومؤمنةً بوطن موريتاني تريد رؤيته دولةً مستقلةً وذات شأن. ولم يكن أسهل على فرنسا، والحال أنها قررت منذ أواخر الخمسينيات مغادرة جميع مستعمراتها، من الخروج تاركةً مجتمع البدو الرحل لصراعاته العشائرية على المراعي والآبار والثارات القديمة، ولثلاث دول جارة ستتقاسم أرضه بكل سهولة ويسر، دون أن تتأثر المصالح الفرنسية، في هذه الحالة، أو تنقص درهماً أو ديناراً، لأنها دول ومستعمرات تابعة لفرنسا تمام التبعية. لكن أهم ما جعل باريس ترجّح خيار مساندة استقلال موريتانيا هو وجود نخبة محلية كانت أهلا لتحمل المسؤولية، وكانت توصل الليل بالنهار وتجوب أركان المعمورة سعياً لإيجاد موطئ قدم للكيان الجديد داخل الساحة الدولية.. وقد خاضت جميع معاركها الداخلية والخارجية حتى النهاية، بكل إصرار وشرف وإخلاص.

وبالمقارنة مع حالتنا، فقد تسلّمت النخبة السنغالية، بزعامة الرئيس ليوبولد سينغوز، مفاتيح بلدها من فرنسا، وكان دولةً ناجزةً تتمتع بكامل مؤسساتها الإدارية والتنظيمية والخدمية وبناها التحتية ومواردها البشرية، ولا وجود لأي لغط أو شوشرة داخلية فيها حول جدوى الاستقلال كما لا ذكر لأي مطالب أو ادعاءات خارجية إقليمية في السيادة عليها.. ومع ذلك فإن سينغور رسمياً يعد مؤسساً وأباً للسنغال ودولته الحالية. وبالمقابل فإن لدينا اليوم، وبعد ستين عاماً من الاستقلال، مَن يشكك في نسبة التأسيس إلى المختار رغم أنه جابه من التحديات والصعاب والعراقيل والمثبِّطات والمحبِّطات ما لم يجابه أي رئيس مؤسس آخر في محيطنا الإقليمي على الأقل. بل هناك من يستسهل الشطب بكبسة زر على كل الجهود التي بذلها الرئيس الأول وجميع الإنجازات التي حققها «على درب التحديات»، قائلا إن كبلاني هو مؤسس الدولة الموريتانية، لمجرد أنه رسم على الورق، قبل نحو قرن وربع قرن من الآن، خارطةَ «أرض البيظان» مستعيداً تسميتها الرومانية القديمة «موريتانيا»، ثم احتفظنا بها لاحقاً كما فعلت كثير من دول العالم التي لم تختر اسمها بنفسها، دون أن يكون في ذلك انتقاصاً من كرامتها الوطنية! والواقع أن فرنسا التي بقيت في بلادنا ستين عاماً (من كبلاني إلى مسمير) لم تشأ يوماً إقامة دولة على هذه الأرض، واكتفت بإقامة مصالح إدارية محدودة ومراكز عسكرية صغيرة متناثرة في أنحاء البلاد.. وإنما كان «مشروع الدولة» فكرةً التمعت في أذهان نخبة من أبناء البلاد وسيطرت على وجدانهم ما أن بدأت فرنسا تتهيأ للانسحاب والخروج.. وإنَّ الذي أطلق في عام 1957 شعارَه الشهير (والغريب في حينه) «لنبن الوطن الموريتاني معاً»، هو المؤسس المختار وليس الغازي كبولاني!

محمد المنى

سبت, 16/05/2020 - 20:30