هل يعتذر الرئيس السابق تخفيفا لتبعات التحقيق البرلماني؟

تابعت النقاش القانوني والشرعي المتعلق بمسألة استدعاء الرئيس السابق إلى لجنة التحقيق البرلمانية بين مؤيد ومعارض وقد تناول النقاش مفاهيم مهمة في هذا الباب من قبيل الحصانة والخيانة العظمى....

وبغض النظر عن مدى قانونية استدعاء الرئيس إلى لجنة التحقيق من عدمها فإنه قد يكون من المناسب، حسب وجهة نظري، معالجة الموضوع أخلاقيا على ضوء ما حصل من أحداث منذ انقلاب 2009 على الرئيس المنتخب وحتى شهر يوليو 2019.

والمفهوم الأخلاقي الذي أريد أن أتعرض إليه في هذه السطور يتعلق تحديدا بالاعتذار، فالاعتذار خصلة عظيمة ومحمدة كريمة يتحلى بها الأقوياء وتصعب على الضعفاء.

 

كيف بدأت الأحداث؟ 

نظمت موريتانيا انتخابات لم يكن الفائز فيها معروفا، وتلك سابقة في البلد، وشهد العالم بشفافية هذه الانتخابات وسلامتها، من الناحية الفنية على الأقل،واضطر المتنافسون إلى خوض غمار شوط آخر بعد عدم تمكن أي من المتقدمين من حسم المعركة في الشوط الأول.

وفاز الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله في تلك الانتخابات وأصبحت موريتانيا "أيقونة" سياسية وإعلامية في البلاد العربية والإفريقية تحت عنوان عريض "العسكر يسلمون السلطة طواعية" ورأى بعض المتابعين أن موريتانيا قد تكون نموذجا يحتذى به، عربيا وإفريقيا، للتداول السلمي على السلطة وإن كان المفكر المصري محمد حسنين هيكل رحمه الله قد تنبأ بعكس ذلك وصدقت نبوءته.

فبعد أقل من سنة بدأت معالم الخطة تتكشف وتحركت "الكتيبة البرلمانية"بإشراف وتنسيق من قائد الحرس الرئاسي العقيد محمد ولد عبد العزيز بهدف شل الدولة ومنع الرئيس المنتخب من ممارسة مهامه بحجة عجزه عن إدارة الدولة وتطور الأمر إلى أن وصلنا إلى انقلاب متكامل الأركان على الرئيس المنتخب ومن هنا اتضحت نيات العقيد، قائد الحرس الرئاسي، في الوصول إلى الرئاسة بأي ثمن.

 

ما وراء الكواليس

ترددت حكاية تفيد بأن الرئيس السابق هو الذي رتب ترشيح الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله وأمن وقوف الدولة معه حتى يفوز، وتذكر الحكاية إنه قال: (إن الرئيس أحمد ولد داداه لن يفوز بالرئاسة ولو منحته الصين أصواتها)، ويفهم من سياق هذه الحكاية أن العقيد محمد ولد عبد العزيز تصرف لأنه ظن أن له وصاية على الرئاسة وأنه يحق له التحرك بالطريقة التي يراها ل"استرجاع" ما ضاع منه أو إكمال المخطط الذي بدأه للوصول إلى السلطة.

وتطورت الأحداث ودخل البلد في متاهة ونفق مظلم، لكن الرئيس المنتخب آثار المصلحة العليا للبلد وامتلك الشجاعة الأدبية واستقال ليجنب موريتانيا مصيرا مجهولا ومخاطر بدأت بوادرها تلوح في الأفق بسبب الانقلاب.

وكان من نتيجة ذلك تنظيم انتخابات فاز فيها الرئيس السابق ولد عبد العزيز ولم تخل تلك الانتخابات من التشكيك في طريقة تنظيمها وكثر الحديث عن عمليات التزوير لكن الأكيد أنها لم تخل من أنواع معينة، جلية أو خفية، من التأثير على إرادة الناخبين.  

قد يقول قائل إن الرئيس السابق فاز في انتخابات شاركت في تنظيمها المعارضة وحضرها مراقبون ولم تتجاوز نسبة فوزه ال 50% بالكثير ما يعطيه مصداقية ويبعد عنه شبهة التزوير، فلماذا عليه أن يعتذر؟

 

موجبات الاعتذار 

 

لنستعرض بعض الأفعال والتصرفات التي حصلت خلال العشرية الماضية لنرىإن كانت هناك حاجة للاعتذار أم لا؟

- استخدام وسائل الدولة للتأثير على نتائج الانتخابات.

- الانقلاب على رئيس منتخب، وقد اعترف الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز صراحة بأنه دبر انقلابين بحجة "تحقيق الديمقراطية والتنمية ومحاربة الفساد"، والاعتراف سيد الأدلة.

- الزعم أن الانقلاب كان بمثابة حركة تصحيحية لإنقاذ الدولة وقد اتضح أن الأمر لم يكن كذلك وإنما السعي للوصول إلى السلطة لمآرب شخصية. 

- التواطؤ مع بعض أعضاء البرلمان لانتهاك الدستور لتحقيق أغراض شخصية.

- تهيئة بيئة خصبة – وليس بالضرة أن يكون ذلك عن قصد- لفتح ملفات اجتماعية كادت تخرج عن السيطرة وأصبحت بمثابة قنابل موقوتة تهدد السلم الاجتماعي في البلد وتشكل خطرا على مستقبله.

- منهج التعامل مع الملفات الكبرى في الدولة وإدارتها بطريقة لا تخلو من أوجه فساد حسب ما يرى كثير من المراقبين ومن أوضح الأدلة على ذلك تشكيل لجنة التحقيق البرلمانية للنظر في هذه الملفات.

- ما تواتر من السعي لانتهاك الدستور من خلال محاولة تغييره لفتح الباب لمأمورية ثالثة، نعم أكد الرئيس السابق في أكثر من مناسبة أنه لا يسعى إلى مأمورية ثالثة لكن هناك جملة قرائن بل أدلة تؤكد رغبته في مأمورية ثالثة، منها:

• عدم الحسم أحيانا في إجاباته للصحفيين حول هذه النقطة.

• استمرار كبار معاونيه في التبشير علنا ببقائه في الحكم دون أن يسكتهم ما يعني أنه أمرهم أو على الأقل أن الأمر وافق هوى في نفسه والسكوت علامة الرضا.

• التحرك العلني المنظم لبعض البرلمانيين (الكتيبة الثانية) الذين سعوا، وقد تجاوز عددهم ثلثي أعضاء مجلس النواب، لتغيير الدستور للسماح للرئيس بمأمورية ثالثة.

ويفهم من طريقة إعلان البيان في التلفزيون أن جهات نافذة في الدولة تدخلت لإيقاف مسلسل المأمورية الثالثة.

فما هو تكييف هذه التصرفات؟ أهي خيانة للأمانة؟ أم انتهاك للدستور أم تلاعب بإرادة الشعب؟ أم إجهاض للمسلسل الديمقراطي؟ أم ترسيخ لمنهج الاستيلاء على السلطة بالقوة؟ وبما أن البعد القانوني، كما ذكرت، ليس هو موضوع هذه الفقرات أفلا تستوجب هذه الأخطاء الاعتذار إلى الشعب الموريتاني؟

فالاعتذار هو أضعف الإيمان والاعتراف بالخطأ فضيلة.

والاعتذار يمثل نوعا من التكفيرعن الأخطاء التي حصلت في العشرية الماضية.

كما أن الاعتذار سيكون في مصلحة الرئيس السابق في حال استمر المسار القانوني إلى منتهاه.

 

نماذج من الاعتذار السياسي

 

الاعتذار يمثل أقصى درجات الاحترام للمعتذر إليهم وقد اعتذر كثير من الزعماء وكبار المسؤولين قديما وحديثا أو تراجعوا عن قرارات معينة لتصحيح أخطاء وقعت، كل ذلك احتراما لإرادة الشعوب وقد اعتذر زعماء ومسؤولونكبار في البلاد العربية وفي غيرها ،عن أخطاء لا تقارن، في حجمها، بما ذكرنا آنفا.

صحيح أن البلاد العربية تعاني من فقر حاد في مجال الاعتذار السياسي ومع ذلك وجدت حالات قليلة تستحق أن تذكر وتشكر.

ونسوق ابتداء الفقرة المؤثرة من خطاب استقالة الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد اللـه:

“فرغم أنني قادر على التمسك بحقي وواجبي في ممارسة المهمة التي انتدبتموني لها، وأنا مسلح لذلك بشرعية دستورية لا مطعن فيها، وبقدرة كبيرة بحمد الله على الصمود، وبظهير قوي من المواطنين المؤمنين بالديمقراطية المستعدين للتضحية في سبيلها. رغم ذلك كله، فإنني آثرت أن أجنب بلدي وشعبي مزيدا من مخاطر الحصار الاقتصادي والتشرذم السياسي والتجاذب الاجتماعي. وكلي أمل، علاوة على ذلك، أن أكون باستعدادي للتنازل عن السلطة مقابل ضمانات لمستقبل موريتانيا، قد ساهمت، بالعمل وليس بالقول فقط، في الدعوة إلى أن يكون التشاور سنة متبعة في حل كل مشاكل موريتانيا".

وغير بعيد عنا، سحب الملك محمد السادس العفو عن إسباني متهم باغتصاب وتعذيب أطفال مغاربة وذلك بعد احتجاجات في عدة مدن مغربية سنة 2013.

وهذا عبد الناصر يعترف ،بطريقة أو أخرى ، بمسؤوليته عن هزيمة 67 - التي سماها محمد حسنين هيكل النكسة تلطيفا لها وتخفيفا من وطأتها- ويعلن تنحيه عن الرئاسة وتعيين نائبه ليحل محله.

وهذا رئيس وزراء الأردن عمر الرزاز يعترف بمسؤولية الحكومة الأخلاقية والإدارية عن كارثة البحر الميت التي أودت بحياة 21 شخصا معظمهم من الأطفال.

وهذا الزعيم منديلا يعتذر عن أعمال العنف التي ارتكبها بعض أعضاء المؤتمر الوطني الإفريقي ضد بعض خصومهم.

وهذا الرئيس الإندونيسي سوهارتو يعتذر عما خلفته حرائق الغابات من تلوث في منطقة جنوب شرق آسيا.

أما رئيسة كوريا الجنوبية بارك غيون فقد اعتذرت لأسر ضحايا غرق عبارة "سيول" سنة 2014 كما استقال رئيس الوزراء بعد هذه الحادثة.

واعتذرت رئيسة كوريا أيضا للكوريين وعبرت عن أسفها وحسرتها بعد اتصالها بصديقة لها كانت رهن الاحتجاز لأن الكوريين رأوا ذلك الاتصال فضيحة واستغلالا للنفوذ.

وفي اليابان اعتذر وزير الصحة الياباني ومساعدوه على شاشة التلفزيون لمريضة ولعائلتها بعد خطأ طبي وقع أثناء خضوع المريضة لعملية جراحية سنة 2016 وأصلحوا الخطأ واستقالت مديرة المستشفى بسبب شعورها بالذنب.

وهذا توني بلير رئيس الوزراء البريطاني الأسبق الذي قاد العدوان على العراق مع سيده بوش، يعتذر سنة 2015 عن "الأخطاء" التي وقعت أثناء غزو العراق سنة 2003.

وهذا الرئيس الأمريكي الأسبق كلينتون يعتذر بسبب عدم توشيح سبعة أمريكيين من أصول إفريقية من أبطال الحرب العالمية الثانية.

والاعتذار السياسي مادة غزيرة في التاريخ البشري كما أسلفنا ولكن هناك حالات يرفض فيها الزعماء الاعتذار لاعتبارات تخص كل بلد، فهذا الرئيس الفرنسي السابق ميتران يرفض سنة 1992 الاعتذار عن تواطؤ فرنسا في اضطهاد اليهود، كما رفض الرئيس الأمريكي بوش سنة 1992 الاعتذار عن استخدام الولايات المتحدة للسلاح الذري خلال الحرب العالمية الثانية.

نصيحة

وبناء على ما سبق فإني أدعو، ناصحا، سيادة الرئيس السابق محمد ولد عبدالعزيز إلى الاعتذار أولا للشعب الموريتاني عما قد يكون سبب له من أضرار ويعتذر ثانيا للرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله للاعتداء على حقه وسلبه سلطة ممارسة مسؤولياته الدستورية وإساءة معاملته دون وجه حق، والاعتذارثالثا للمعارضة بكافة مكوناتها عما تلقته من تجاهل وحصار وارغام على العيش في المنافي بل ووصف زعمائها بأنهم أعداء للوطن.

وصيغة الاعتذار للشعب الموريتاني قد تكون في تصريح علني في قنوات التلفزيون والإذاعة أما الاعتذار للرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله فالأمثلفيه أن يذهب الرئيس السابق ولد عبد العزيز إلى الرئيس سيدي محمد ولدالشيخ عبد الله ويأتي مطأطأ رأسه ويصطحب معه لذلك الغرض أبرز أعضاء الكتيبة البرلمانية لأنهم اشتركوا معه في الجرم والإثم.

نعم لقد عفا الرئيس سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله وأعلنها بأسلوبه الراقي "لا تثريب عليكم اليوم" ولكن هل يعفي ذلك العفو من أخطأ من تصحيح أخطائه على الأقل من الناحية الأخلاقية؟

وإلى جانب طلب الاعتذار فإني أقترح أيضا، كما ذكرت في مقالات سابقة، على الرئيس السابق محمد ولد عبدالعزيز أن يطلّق السياسة نهائيا ويؤسس منظمة للسلم الاجتماعي لخدمة الشعب الموريتاني يكون مقرها في منطقة نائية من المناطق الأكثر فقرا في البلاد ويوظف علاقاته الواسعة التي نسجها مع زعماء العالم أثناء رئاسته، لخدمة الشعب الموريتاني ومهمشيه خصوصا، فذلك أجدى وأنفع ولعل ذلك أيضا يخفف من التبعات القانونية لما قد ينتج عن أعمال لجنة التحقيق البرلمانية والأهم من ذلك أن يكون الاعتذار والتوجه إلى العمل لخدمة المجتمع مطية إلى توبة نصوح يحتاجها كل مسلم فمن باب أولى من تلبس بالشأن العام وحقوق المستضعفين.

وبالمناسبة أذكر نفسي وأذكر الرئيس السابق بقوله تعالى (يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) فذلك اليوم لا ينفع فيه إلا العمل الصالح ومن أهم أنواع العمل الصالح رد المظالم خاصة، مثلما ذكرنا، بالنسبة لمن تولى الشأن العام وتلبس بحقوق الناس.

ولعل الرئيس السابق يتأمل أكثر من مرة في موقف أقرب مؤيديه وأشرس المدافعين عنه الذين انفضوا من حوله اليوم بل إن منهم من جاهر بخصومته، فمن تخلوا عنه اليوم فليسوا بنافعيه يوم الحساب.

وكما ذكرت أيضا، في مقالات سابقة، فإني أقترح على سيادة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز أن يبحث عن رجل من الزهاد من أهل الله، وقليل ما هم،ليصحبه ويأخذ عنه الزهد في الدنيا والتعلق بالآخرة ويرشده إلى التكفير عن الذنوب والخطايا ويبين له كيفية رد ما قد يكون علق به من حقوق الناس.

أرجو أن تكون هذه نصيحة صادقة وأن تجد أذانا صاغية لدى الرئيس السابق وفقه الله وحفظ بلادنا من كل مكروه.

والصلاة والسلام على الحبيب الشفيع.

2

اثنين, 20/04/2020 - 19:39