حول العمالة المنزلية فى موريتانيا

يتسلل الجدل القديم الى وسائط التواصل مجددا، حاملا وجه القاصر-الراشدة؟، المستأجرة-المستعبدة؟...

الاستعانة بعمال الخدمة المنزلية حق لمن استطاع إليه سبيلا، والشائع أنها حظوة محجوزة للميسورين، وبما أننا لا نخضع في عموم أمرونا للمنطق العام، أصبح وجود العاملة امرا معتمدا لدى المُعدم والغني.. وحتى منتصف الثمانينات البيوت خالية من العمال في ثلثيها.

طبعا خدمة البيت المفتوح الفوضوي تستوجب كتيبة طيِّعة من شباب الصين.. وترمي أغلب ربات الأسر بكل المسؤوليات من التدبير للتربية على عاملة، ستتحول لربة بيت بديلة لا ينقصها إلا عقد شرعي.. حتى ولو كانت المشغِّلة لا تعمل وكان الزوج عاجزا.

تلجأ بعض الأسر ضعيفة الدخل لأكثر من طريق قد لا يكون مستقيما للحصول على عاملة تتناسب ودخلها، ومنها استغلال العلاقات التقليدية بين الأسياد وعبيدهم السابقين، أو من كانوا تحت وصايتهم، بالنسبة للبيظان أو استغلال علاقة دم وقرابة بالنسبة للزنوج،.. وهذه الممارسة التي لا تتناغم وعقد التأجير التقليدي الشائع، وتتساوى فيها كل العرقيات وتتفاوت أحيانا في اتجاه الشطط، وهي لا ترقى لأحسن من حالة استحواذ آدمي أو حيازة مقابل مال.. وهو -فعلا- استعباد بأجر زهيد.

هذا الوضع يسري على فئة من الفتيات يَقدمن أو يُستقدمن من الريف، سرق الفقر طفولتهن، يسجن في بيوت غريبة عن منشئهن وعاداتهن، يخضعن لسُخرة تبدأ من الفجر ولا تنتهي بحلول الليل، يتجرَّعْن صنوف الاذلال النفسي والقهر البدني، والألفاظ والنعوت البذيئة، ويكلفن فوق طاقتهن في بعض أوساط التشغيل،.. أغلبهن قاصرات حتى ولو ضرب الرمل حول أعمارهن، فهن لا يتوفرن على هويات والتقدير العمري محاط بالجهل والخداع.

لكن ثمة ضالعون في مسار الانتهاك المخل هذا، وهُمُ الأهل، فَهُم من يباركهُ تحت عباءة الصمت ويقبض المقابل، ويدافع عنه ان اقتضى،.. هذا الصِّنف من العاملات لا يسقط الراتب في أيديهن أبدا،.. استغلال مزدوج أليم، حتى ولو كان خيارا "بالتراضي" لتشغيل فتيات من أسر تعرف الحرمان المادي وتكابد البقاء مع تبعات غلاء المعيشة، وما من سرٍّ في أنَّ ارث التمايز الاجتماعي يحمل احباطات حادة من النفور النفسي، والفوقية والدونية، والأحكام المسبقة.

هذا الوضع الكئيب قد تحاول فيه الأسر الحاضنة المشغلة ممارسة الأبوة الأخلاقية الفُضلى على العاملة "كفرد" من الأسرة، .. وهذا تجاوزٌ بواح، فليس من حقهم تعنيفها لتربتها، خصوصا أن تلك التربية غالبا ما تغلّف نوعا من ترويض "المتمردة" على الوضع المزري،... التشغيل لا تترتب عليه الوصاية الشرعية.

أحيانا، تمثل صدمة التحضر منعطف التَّحول نحو الأسوأ لفتاة عَرفت العنف الجسدي والحرمان ، فتنساق في المدينة وراء بعض الترفيه والتعويض العاطفي على هامش البؤس، في علاقات متعة شحيحة تكون خاتمتها المضمونة حمل خارج إطار الزواج، فنسبة الوعي لا توفر الركون للحذر،.. هذه الظاهرة حبيسة الظل، تفتك بفتيات الأسر النازحة من الريف، وتضع جيشا من الأطفال أشباه الأيتام في مهبِّ الضياع، بلا هوية ولا معيل، في ظل تسليم من الأهل المغلوبين على أمرهم،.. والأولى بالحقوقيين والاجتماعيين، وجماعة المسلمين والمتأسلمين أن لا يبقوا محايدين.

منذ عقد بادرت الدولة بوضع قانون ينظم عمل خادمات وعمال المنازل، لا أعرف مصيره،.. لا شك أن منظمة "إيرا" رمت بحجر إيجابي في مستنقع العمالة المنزلية وحرّكته، لكن لم يعد حماس الحقوقيين للملف هو نفسه مقارنة بحماس طلقة اثبات الذات منذ عقد من الزمن مثلا حين كانت جالبة للدعاية، جاذبة للضوء ،.. ولا شك أيضا أن تعَطُّش "إيرا" السّعاري للفضائح وقنص المتناقضات بالابتزاز والاستفزاز يطغى على الجوانب العقلانية العملية في العلاج والمتابعة.

ستنحسر ظاهرة عمال المنازل أمام زحف الصعوبات الاقتصادية، واستغلال السنغال للغاز، والأهم من ذلك أمام الوعي بأحكام قانون العمل، الحافظ لحقوق الأطراف بعقد معلوم المقابل والمدة، بما فيه عطلة الأسبوع والسنة والسكن اللائق وأوقات الدوام.

ستنحسر أيضا أمام وعي النساء بضرورة التحفظ في تعاملهن وأطفالهن مع غرباء مجهولي الماضي الصحي والنفسي، والالتزام الأخلاقي والديني ... بضرورة بذل جهد بدني بالتعاطي مع الأجهزة المنزلية، بتنظيم الوقت، بالطبخ لعدة أيام، بالاتجاه للشقق بدل الدور الكبيرة، بالتعامل مع الحضانات المدرسية.. فالاستناد التام على العاملة خلق جيلا كسولا عاجزا عن سلق بيضة.

ما أشهدُ به أن أغلب ربات البيوت في نواكشوط تستعبدهن العمالة المنزلية الأجنبية والوطنية ،.. السرقة والتحايل على الوقت والفساد واللؤم والكذب، وسوء معاملة الأطفال ونقل الأمراض، وتصاعد التكاليف.. والنساء صابرات لقاء الراحة.. امْبردات ايديهم!..

من لا يصدق بطشهم، فليضع كاميرا مراقبة ويتصل بي... لقد أرتني العجب العجاب.

الدهماء ريم

خميس, 05/09/2019 - 19:45