1991 - 2019: قصة المسار الديمقراطي فى موريتانيا

وصل المسار الديمقراطي فى موريتانيا الْيَوْمَ محطة التناوب السلس على السلطة بين رئيسين منتخبين بالاقتراع العام المباشر بعد مسيرة اعترضتها الكثير من العثرات والمطبات. وظل هذا المسار يتأرجح بين انقلاب عسكري أو تزوير انتخابي فاحش .

الْيَوْمَ فاتح اغسطس 2019 ينبعث الأمل من جديد لدى الموريتانيين وهم يعيشون وقائع انتقال سلمي للسلطة جاء ثمرة لتراكمات من النضالات السياسية وتطور فى الوعي المجتمعي وإرادة سياسية فرضت احترام الماموريات الدستورية للحكم الرئاسي ممهدة الطريق لتأسيس تجربة ديمقراطية صحية تقطع مع التغييرات غير الديمقراطية للسلطة التى طبعت المشهد السياسي الموريتاني لعقود من الزمن.

مخاض الديمقراطية الموريتانية

لم يترك المسار الديمقراطي منذ انطلاقته سنة 1991 أي شهر من شهور السنة -وربما أي يوم- يمر من دون أن يخصه بحدث ذي أهمية. وإذا كان شهر أغشت تميز بأنه شهر الانقلابات الناجحة والتجاوز الفعلي للمؤسسات الديمقراطية، فإن شهر ابريل نجح في أن يضفي طابعه الخاص على الأحداث ذات الأهمية الاستثنائية في عملية التحول الديمقراطي التي شهدتها موريتانيا.

لقد شهد يوم 18 ابريل 1992 تنصيب أول رئيس موريتاني يفوز في انتخابات تعددية، وفي يوم 19 ابريل 2007 تابع الموريتانيون –وسط اهتمام إقليمي ودولي- مراسيم أول عملية تداول سلمي على السلطة تعرفها بلادنا حيث تم تسليم السلطة للرئيس المنتخب ديمقراطيا ولد الشيخ عبد الله، غير أن يوم 15 ابريل 1991 يبقى الأكثر رمزية باعتباره يوم ميلاد المسار الديمقراطي الموريتاني.

قد يختلف المتتبعون لهذا المسار عند تقييم مختلف مراحله إلا أن أغلبيتهم يجدون فيه تجربة غنية وضعت البلاد على الطريق الصحيح. لقد تعرض للعديد من الهزات القوية، تحرك تحت ضغط إرادات قوية تسعى لخنقه ولتوجيهه لمصلحتها، غير أنه ظل مثل طائر الفينيق قادرا على النهوض من رماده والتحليق مجددا ليذكر من ينتخبهم الشعب، أو من يفرضون أنفسهم عليه، بأن عهد الانفراد بالسلطة والتحكم في مصير الشعب قد ولى لغير رجعة.

كانت ظروف الولادة صعبة وأجواؤها ملبدة بغيوم المصاعب، غير أن الرئيس الأسبق ولد الطايع استطاع أن يحسم أمره، ليعلن للشعب الموريتاني –عبر ما سيعرف لا حقا بخطاب عيد الفطر المبارك- وبلهجة واثقة بأن استفتاء عاما سينظم خلال السنة الجارية للمصادقة على دستور وأن انتخابات حرة -من بين أمور أخرى- ستنظم مستقبلا لاختيار مجلس نواب ومجلس شيوخ.

لم يكن الكثيرون حينها يدركون أنه خلف اللهجة الواثقة للرئيس يثوي شعور عارم بالخوف من الغرق وسط محيط مشحون بالتوتر وانسداد الآفاق، حينها كان النظام يحاول جاهدا أن يجعل من تعميم 11 فبراير 1991 برنامجا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، وكان يستغل حملة إعادة تنصيب هياكل الجماهير لاستدرار التأييد الشعبي، غير أن تحديات المرحلة كانت أكبر بكثير من أن تواجه بأسلحة هزيلة سبق وأن استنفدت كامل مفعولها.

قبل 5 أيام من تاريخ الخطاب، أي في يوم 10 ابريل، كان ما سيعرف لاحقا بالنواة الصلبة للجبهة الديمقراطية المتحدة لقوى التغيير FDUC قد حسم أمره وقرر الخروج إلى العلن للوقوف في وجه الانحرافات الخطيرة للنظام، بل لوضع حد لدكتاتورية كانت تثبت يوما بعد يوم خطورتها على وحدة واستقرار البلاد.

وفي يوم 5 ابريل كان اتحاد العمال الموريتانيين قد افتتح موسم الحركة الاحتجاجية والمطلبية حين فجر قنبلته في شكل ثلاثة رسائل للمطالبة بفتح الحوار بين الشركاء الاجتماعيين وبتبني نظام ديمقراطي وبإنشاء لجنة مستقلة للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، بل حين ذهب أمينه العام أبعد من ذلك مطالبا بمؤتمر وطني لمناقشة أوضاع البلاد الحرجة والبحث لها عن حلول.

وفي تلك الأثناء كان كل من ضابط الصف الشيخ أفال -الذي كان شاهدا على الانتهاكات الوحشية التي تعرض لها العسكريون والمدنيون الزنوج في أجريدة- واتراورى لادجي، قد تمكن عبر إذاعة فرنسا الدولية من فضح عمليات القتل والتنكيل التي كانت تجري من العزلات إلى انبيكه إلى إنال ونواذيبو، وذلك في وقت بدأ فيه النظام بإطلاق سراح بعض العسكريين الزنوج .

قبل ذلك كان الحليف الرئيسي للنظام قد خرج من الكويت يوم 27 فبراير تحت ضربات "التحالف الدولي" الذي تفرغ الآن لتصفية الحسابات مع حلفاء صدام، وكانت رياح التغيير الديمقراطي قد بدأت تهب على مناطق عديدة من العالم وخصوصا على شبه المنطقة. ثم إن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الداخلية كانت على أشدها بفعل الحصار الدولي المفروض على النظام واستمرار الجفاف للسنة الثانية.

كان ولد الطايع إذا في وضع لا يحسد عليه، فكان عليه أن يختار بين الوفاء لأسلوبه القديم فيلجأ إلى القمع ويشغل وقته بقراءة رسائل وملتمسات التأييد (مثل رسالة الأربعة آلاف التي وقعتها بعض القوى السياسية للتشهير بالديمقراطية، ورسالة الأربع مائة التي وقعها ما يعرف بزنوج النظام)، أو أن يحاول استعادة المبادرة لقطع الطريق أمام حركة الاحتجاج المتصاعدة حتى لا يجد نفسه أمام نفس مصير صديقه المالي موسى تراوري.

كانت الوكالة الموريتانية للأنباء ومن خلفها دهاقنة هياكل تهذيب الجماهير يدفعونه في الاتجاه الأول، بينما كان هو في طريقه إلى أن يثبت بأنه "بطل التقلبات السريعة والمنعرجات الخطرة". لم يعلن الانفتاح الديمقراطي فحسب، بل أطلق أيضا سراح جميع المعتقلين واستبق احتفالات فاتح مايو بالإعلان يوم 18 ابريل عن فتح المفاوضات بين الشركاء الاجتماعيين في يوم 27 ابريل.

وهكذا ستبدأ الأوضاع في الانفراج.. سيتفاوض ولد الطايع علنا مع النقابيين خلال شهر مايو، وسرا مع العسكريين المفرج عنهم وذوي المفقودين، كما سيمهل السياسيين بعض الوقت لتنسيق مواقفهم ولتعيين قياداتهم. لكن لن يبدأ شهر يونيو إلا حين يكون مستعدا للهجوم على خصومه.

سيحمل النقابيين المسؤولية عن أحداث الخبز 2 يونيو 1991 في نواذيبو، وسيعتقل قادة الجبهة الديمقراطية يوم 3 يونيو -وهم يستعدون لإعلان ميلاد FDUC- ليجري استفتاء 20 يونيو في غيابهم، كما سيشن حملة لا هوادة فيها على النقابيين لن تنتهي إلا بالانقلاب على أمينهم العام يوم 26 يونيو وتعيين مساعده محمد دينا مكانه.

وهكذا لن تأتي الانتخابات الرئاسية في يناير 1992 إلا وقد تمكن ولد الطايع من استعادة المبادرة على الصعيدين الداخلي والخارجي وأصبح قادرا على تطويع المسار لصالحه، رغم القدرة التعبوية الهائلة لمعارضته ونبرة التحدي القوية التي صاحبت انطلاقتها.

سنحاول الاقتراب أكثر من الظروف والملابسات التي اكتنفت انطلاقة هذا المسار من خلال ملف متعدد العناصر، حيث سنتعرف أولا على حقيقة الدور الذي لعبه اتحاد العمال الموريتانيين من خلال [مقابلة مع مسؤوله للعلاقات الخارجية وقتها->http://www.aqlame.com/article1061.html] (الأمين العام الحالي للكونفيدرالية العامة لعمال موريتانيا) عبد الله ولد محمد الملقب النهاه.

سنطلع أيضا على نص "[رسالة الخمسين->http://www.aqlame.com/article1062.html]" وعلى [قراءة الكاتب الصحفي أحمد جدو ولد عالي لملابسات إعداداها->http://www.aqlame.com/article1054.html]. ثم سنستعرض رأي الباحث والأستاذ الجامعي محمد الأمين ولد سيدي باب حول "[دواعي الانفتاح السياسي في موريتانيا->http://www.aqlame.com/article1055.html]".

ولن تكتمل الصورة من دون الإطلاع على [نص الخطاب التاريخي->http://www.aqlame.com/article1052.html] الذي ألقاه الرئيس ولد الطايع يوم 15 ابريل 1991، ومحاولة تذكر الدور الذي كانت تلعبه الوكالة الموريتانية للأنباء من خلال الإطلاع على [إحدى افتتاحياتها الجهنمية->http://www.aqlame.com/article1053.html].

ولأن أهمية هذا المسار سرعان ما تجاوزت الحدود الوطنية لتناط بها مهمة إثبات "عدم صحة الادعاء بوجود تعارض بين الهوية العربية والإسلامية ثقافةً وانتماءً والتحول الديمقراطي"، فسنستعرض مع القراء بعض المعالجات الجادة التي سعت إلى تقييمه خلال بعض مراحل تطوره من خارج الاستقطاب السياسي المحلي وذلك من خلال كتابات بعض المفكرين والزعماء السياسيين العرب:

[موريتانيا: المغزى الإسلامي للعملية الديمقراطية / عزمي بشارة->http://www.aqlame.com/article1057.html]

[موريتانيا والتحدي الديمقراطي / الصادق المهدي->http://www.aqlame.com/article1058.html]

[التحول الديمقراطي في موريتانيا / د. معتز بالله عبد الفتاح->http://www.aqlame.com/article1056.html]

ملف خاص من إعداد "أقلام"

اثنين, 12/08/2019 - 13:36