وجها لوجه مع الرئيس الجديد!!

" ... في المساء كنت عند بوابة الرئاسة الملاصقة لمبنى مجلس الشيوخ، الذي كان يقع على ناصية شارع الاستقلال، الذي أصبح اليوم جزء من ساحة الحرية المقابلة للقصر الرئاسي، في مستوى بناية البنك المركزي الموريتاني ناحية الشمال الشرقي... 

كان الوقت بعد صلاة العشاء، في ليلة رمضانية عادية، وكان الطقس معتدلا، كانت رطوبة المساء قد بدأت تلطف ما بقي من حرارة النهار، والأجسام قد انتعشت بفعل وجبات الإفطار المتنوعة، بعد يوم صيام طويل وحار.

كانت حالة الطقس تشبه حالة البلاد، التي تنفست الصعداء قبل أشهر مع الانقلاب العسكري الذي أنهى حكم الرئيس معاوية ولد الطائع، وأصدر عفوا شاملا عن السجناء والمعتقلين السياسيين، كما أوقف ملاحقة عدد كبير من السياسيين والعسكريين والحقوقيين المرتبطين بملف التوترات السياسية والعسكرية التي شهدتها البلاد، على مدى السنوات الثلاث الأخيرة.
.... لم يكن ن رئيس المجلس العسكري الذي خلف الرئيس معاوية ولا أعضاؤه معروفون على نطاق واسع، خارج النخبة السياسية والأمنية والعسكرية، فقد كان رئيس المجلس المرحوم اعلي ولد محمد فال، وهو أسن المجموعة وأرفعها رتبة، من آخر أعضاء اللجان العسكرية السابقة، المتبقين في المشهد، قد تولى منصب المدير العام للأمن الوطني لفترة طويلة، وهو منصب يقتضي قليلا من البعد عن الاستعراضية والتحفظ..

وهو نهج على ما يبدو، أتقنه هذا العقيد الخمسيني، الهادئ والوقور... كان الرجل الذي بقي إلى جانب رفيقه السابق في المشهد، الرئيس معاوية، مع قلة من العسكريين، تولوا مناصب إدارية كبيرة، دون أن يزاحمه في الواجهة.

أما باقي الأعضاء، فقد كانوا دونه رتبة وسنا وتجربة، وكانوا "جددا" بهذا المعنى، ولم يسبق لهم أن تولوا أي مناصب كبيرة قبل الانقلاب، ولذلك انزووا في تفاصيل المشهد، ولم يظهروا على الأقل في العام الأول في الواجهة.

عند البوابة، كانت جموع الصحفيين المدعوين لهذا اللقاء تتوالى في الوصول، وكانت عملية التدقيق في هويات الداخلين تتواصل بسلاسة واضحة من قبل نقطة الحراسة الفاصلة بين مدينة نواكشوط، ومقر عمل وإقامة حاكم البلاد.

استغرقت عملية التدقيق في هويتي ورفاقي، بضع دقائق، ليسمح لنا بالدخول.

تقدمنا نحو باحة القصر الخارجية، تتلقفنا الحراسات بالتوجيه، حتى أوصلتنا إلى القصر القديم.
كان الطقس داخل باحة القصر الرئاسي، ألطف منه خارجه، فقد كانت المساحات المعشبة المروية بإحكام، ودون تقتير طبعا، وباسقات النخيل المتناثرة، والأضواء الموزعة بهندسة محسوبة داخل الموقع، تخلق جوا بهيجا، يبعث على الارتياح، ويغري بالتوغل في المكان.
كان فعلا مكانا مختلفا عن باقي نواكشوط، تلك المدينة الكالحة المهلهلة، الشاحبة، التي انبثقت منذ نحو مائة عام من الرمال، كمركز عسكري فرنسي صغير، على مرمى حجر من طرفاية منصور، وظلت زاهدة في البهارج، كما هو حال الموريتانيين، قليلة الاهتمام بمظهرها وواجهتها.

كيف لا يكون المكان مختلفا؟!
وهو أهم موقع في البلد، ومركز القرار السياسي، وبه قمة هرم السلطة.
في التعبير الدارج يطلق على هذا المكان اسم الرئاسة أو القصر الرئاسي حتى بعد ما أصبح هناك في الواقع قصران متفاوتان في الحجم ومختلفان في هندسة البناء والوظائف التي يقومان بها حاليا.

أقدم هذين القصرين عبارة عن بناية عتيقة، بنيت فجر الاستقلال، بطابق وحيد زُين بحجارة حمراء، وهو القصر الرئاسي الأول، أو الآجري كما يطلق عليه أحيانا، لم يعد مستخدما بشكل حيوي منذ نحو عقدين من الزمن، بعد ان أحيل للتقاعد تقريبا، حيث لا تجرى فيه سوى أنشطة صغيرة ومتفرقة.
في هذا القصر القديم عاشت موريتانيا أيامها ولياليها الحبلى بالسعادة والأحزان، وبه طبخت القرارات ورسمت الخيارات الأهم والأخطر في سنوات النشأة وفترة التأميم وحرب الصحراء وسلسلة الانقلابات التي أعقبت ذلك.

هنا عايش الآباء المؤسسون البدايات الصعبة وطوحت بهم آمال سنوات ما بعد الاستقلال وقرارات التأميم وتجسيد القرار الوطني.
هذا الموقع ذي الشحنة التاريخية الكبيرة.... وهو اليوم في صمته الظاهر يستعيد في هدوء وسكينة أحداثا مفصلية مرت به...

في القصر الآجري ظل المختار ولد داداه طيلة 18 عاما يمسي ويصبح على إدارة ملفات الدولة الفتية، وفيه جلس العسكر لقيادة البلاد في 10 يوليو 1978، ، وفيه عايش الرئيس معاوية ولد سيدي أحمد الطائع، سنوات الجمر والغليان السياسي والعرقي، ومنه قاد البلاد نحو التعددية السياسية، بكل ما رافق ذلك من تحولات.
أربعة رؤساء دخلوا القصر الآجري وأقاموا فيه على مدى ثلاثين سنة، وجميعهم خرجوا منه دون اختيار، لكن الرئيس الخامس، دخلة بعد أن أخرج منه الرابع، ليخرج منه ولكن جهارا نهارا وبرضاه التام، لم يكن ذلك الرئيس سوى معاوية ولد الطائع الذي انتقل بداية الألفية الجديدة إلى قصر جديد شيده الصينيون على مرمى حجر من القديم.
ينتصب القصر الجديد بلون رمادي فاتح، مزهوا بطابقين يرتفع بهما عن سلفه، شاهدا على تطورات العقدين الأخيرين، بما فيها من أحداث سياسية متسارعة..  

.. في تلك الليلة كان القصر القديم على موعد مع ضيوف المكان من الصحفيين، وكان هناك تفصيل شكلي جديد يختلف عما ألفه المترددون على القصر، ينتظر المدعوين من الصحفيين، فقد كانت هناك مائدة غنية في انتظارهم، يجوس خلالها عمال الخدمة بالعصائر الطازجة والمياه المعدنية والشاي المنعنع.
من النادر أن يشهد القصر، مؤتمرات صحافية، وكأنه أخذ جانبا من طبع ساكن القصر السابق الرئيس معاوية، وهو ضابط تخطيط عسكري سابق كتوم، معروف بالحرص على الانزواء والاقتصاد في الكلام.

وفي المرات القليلة التي تفرض فيها الظروف إقامة لقاء مع الصحفيين، على الأقل طيلة الفترة التي عايشتها من عهد الرئيس معاوية، كان الأمر يتم بترتيب محكم، مع أقل درجة ممكنة من الاحتكاك مع الموقع، ربما لدواع أمنية، وبعدد محدود من الصحفيين، كما حدث خلال الزيارة التي قام بها الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك للبلاد خريف عام 1997، حيث فرضت ترتيبات صارمة عند الدخول إلى القصر تمهيدا للمؤتمر الصحفي، الذي عقد بعد المحادثات الأولى بين الرئيسين.
وأذكر أني وجدت نفسي في تلك الليلة في ورطة حقيقية، فبعد وصولي إلى ساحة القصر، اكتشفت قبل دخول قاعة المؤتمر الصحافي أني أضعت شارة الدخول "البادج" وتوجست من عاقبة وجودي في المكان دون "بادج".

وربما لم تقلقني فقط إمكانية رفض السماح لي بالدخول، ولكن خشيت أكثر من تبعات دخولي أصلا للمكان في هذا الظرف الأمني الخاص، خاصة أني كنت حديث عهد بالإعلام والزيارات الكبيرة، وقليل الاحتكاك بالطواقم الأمنية والتشريفات المحيطة بالرئيس.

وأذكر أن الزميل الهادي ولد محمدو، وهو أقدم مني في كل ذلك، والذي كان معي لحظة اكتشافي ضياع "بادجي" حاول مواساتي، والتخفيف من هواجسي، وطالبني بالبقاء جنبه حتى نتدبر الأمر عند الدخول، عل رفقة الكاميرا تشفع لي، ونتجنب إخراجي دون حضور المؤتمر، وهو لم يكن يعرف حقيقة هواجسي الصغيرة وخوفي "الطفولي" من الأمن. 
فقد كنت مستعدا لأكتفي بالخروج سالما معافى دون مساءلة، وليذهب المؤتمر الصحفي إلى الجحيم!.

وفي خضم التفكير في الأمر وجدت بحمد الله "البادج" ملقى غير بعيد من السيارة، بعد أن تسلل بهدوء على ما يبدو، عند نزولي من موقعه الطبيعي فوق صدري إلى الأرض. 
.. بعد هذا "البوفيه" الاستفتاحي، انتقلنا إلى قاعة المؤتمرات الصحفية بالقصر القديم، حيث كنا وجها لوجه بعد نحو أربعين دقيقة من دخولنا الموقع، مع حاكم البلاد الجديد، مرتديا زيه العسكري، وحوله الوزير الأول، السيد سيدي محمد ولد بوبكر، وعدد من أعضاء الحكومة، ومعهم المسؤولون الممسكون بالملف المالي في البلد.

وكان فعلا وجود هؤلاء ضروريا لإرسال إشارة طمأنة سريعة وواضحة وصريحة للرأي العام حول العافية المالية للبلد بعد الانقلاب، خصوصا مع شائعات التلويح بالحصار الغربي وعدم الاعتراف الدولي بالقيادة الجديدة.

كان العقيد اعلي ولد محمد فال مرتديا البدلة العسكرية، تأكيدا للطابع الانتقالي للسلطة، التي لم تتولى الحكم سوى لفترة محدودة، بحسب كل البيانات الصادرة عنها... كان وقورا في زيه العسكري الزاهي، وبدا لي شخصيا، أكثر نحافة من آخر مرة رأيته فيها عن قرب، خلال حفل تدشين حضره، قبل نحو عام من سقوط الرئيس معاوية، في إحدى مقاطعات نواكشوط.
وكان مهيبا بقامته الفارعة المعروفة، ووجهه المستطيل وشاربه الكث، وهو يجلس باشا لجموع الصحفيين الذين حرص على اللقاء بهم، لينقل من خلالهم للرأي العام، مبررات الانقلاب وخطة المجلس العسكري للعدالة والتنمية لإدارة المرحلة الانتقالية.
استهل الكلام متحدثا باللغة الفرنسية مرحبا بالحضور، مشيرا إلى السياق السياسي العام لهذا اللقاء.

لكن عدة صيحات اعتراض انطلقت من جهة الصحفيين، تطالب الرئيس بالحديث بالعربية، قبل أن يبتسم الرجل، ويعلن بكل هدوء قبول الانحناء للإرادة الشعبية، على حد تعبيره.
استأنف الرجل كلامه بالعربية، مستعيدا الظروف العامة التي كان يعيشها البلد، والسياق الذي جاء فيه الانقلاب، قبل أن يطلق كلمته الجامعة الملخصة للمشهد العام في البلد يوم إطاحتهم بالرئيس معاوية:
"البلد اليوم مثل بقالة مشحونة بالعلب؛ زاهية الألوان لكنها منتهية الصلاحية "!!
.. كان ذلك مساء يوم 8 أكتوبر2005..." 

كانت أياما..

اثنين, 09/03/2020 - 21:33