لماذا تحدثنا عن العشرية وعن النهج كثيرا! (1)

ما يخفى على الكثيرين محدودية لإدراكهم وتجاربهم، أو ما يدركونه بشكل جيد اطلاعا وسعة لذلك الإدراك فيخفونه عن أنفسهم وعن الناس لحاجة في نفوسهم، هو أن لكل مرحلة من مراحل مسار أية أمة طبيعتها وأولوياتها وطريقة التعاطي فيها سياسيا واقتصاديا واجتماعيا طبقا للتحولات والتجارب والتراكمات.. تلك التحولات والتراكمات التي تحدد إلى أين وصل أي مجتمع، وماذا كانت أولوياته في حقبة ما وكيف أصبحت، وما هو حجم التحولات الذي أصبح سامحا متيحا لتعاط لم تكن طبيعة الأولويات أو ظروف ما قبل التحولات تتيحه، وكثيرا ما تحصل التحولات وتتراكم التجارب والمكتسبات في ظل نهج واحد في نظام حكم مستقر بغض النظر عن شخوصه وأشخاصه، وعادة تكون تلك الشخوص والأشخاص الجدد في أريحية وقدرة أكثر على اتخاذ قرارات وانتهاج سياسات وتعاط جديد ليس بالضرورة دائما أن من سبقوهم لم يمتلكوا القدرة أو الإرادة في انتهاج ذلك التعاطي وتلك السياسات والقرارات، وإنما لأنه ما كانت هناك أرضية أو أرضيات لذلك وبالتالي لم يحن وقته بعد، أو لأنه كان ضمن " زحمة " من الأولويات لا يمكن فتح الطريق لها دفعة واحدة ولا بد، لفك تلك الزحمة، من البدء بالذي يساعد في فتح الطريق لها أولا بأول..

 وما نقصده ب " النهج " هنا ليس أن رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني سيكون نسخة من الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، أو أن حكومته ستكون نسخة كربونية من حكومة الأخير، أو أن تعاطيه السياسي وتسييره الإقتصادي وسياساته الإجتماعية هي نفسها، ولا ننطلق في ذلك من منطلقات من يريدون أن يكون هذا هو منطلقنا وفهمنا من أن رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني صديق ورفيق للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز وكان جزء من نظامه، أو أنه هو من رشحه لخلافته ووجه مناصريه لدعمه وخاض معه الحملة الرئاسية.. لكي يكون مدينا له بأن يخضع لوصايته أو يسير على نهجه حافرا على حافر، أو لا يتخذ قرارات أو ينتهج سياسات دون استشارته، أو لا يتعامل سياسيا إلا مع من كان يتعامل معه، لا، ليس هذا هو ما نقصده بالنهج وإن كنا ما أوتينا، ولا أوتي غيرنا من علم وحقيقة العلاقة بين الرجلين وما اتفقا عليها وما رسماه وخططا له طيلة زمالتهما ورفقتها المديدة إلا قليلا، وما كنا وما كان غيرنا لديهما إذ يلتقيان ويخططان ويرسمان، والصفة التي يشتركان فيها من بين عدة صفات أخري هي أنهما كتومان وصبوران وعصيان على الإستفزاز ومحاولات وضع الشراك ودق الأسافين، وأساليب " سل اللسنه " في ما ينويان عمله..

 إن ما نقصده بالنهج هو تلك المكتسبات السياسية والاقتصادية والإجتماعية والأمنية والدبلوماسية التي تركها السلف للخلف، وتلك التحديات والأولويات التي وجدها السلف مطروحة وبإلحاح عند مجيئه للحكم قبل 11 سنة فرفعها عن الخلف، أو رفع عنه جلها ليستطيع البناء عليها في ما قدمه من برامج ورؤى سياسية واقتصادية واجتماعية وأمنية ودبلوماسية، ما كانت تلك الرؤى والبرامج لتكون كما قدمها لو كانت تلك التحديات والأولويات الملحة لا زالت مطروحة بالمستوى الذي وجدها الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز عليه عند مجيئه للحكم.. وفي نفس الوقت يواصل في تطوير بل وخلق الجديد مما قصُرت عنه اليد وضاق عليه الوقت من تلك الآمال والبرامج والتطلعات خلال عشرية سلفه الرئيس السابق، وهو بالطبع كثير وكبير بالنظر إلى ما كان عليه حال البلد من حاجة في كل المجالات والاتجاهات والجهات.. ولذلك نجد أن طبيعة وأولويات البرامج الانتخابية للرئيس ولد عبد العزيز في حملتيه الأولى والثانية ليست هي نفسها برنامج رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني اليوم لماذا؟ لأن أغلب ما كان مطروحا من أولويات ملحة حينها لم يعد مطروحا كأولويات اليوم بعد عشر سنوات من العمل والإنجاز. 

 وفي نفس الوقت فإن المكتسبات التي تحدثنا عنها أعلاه إنما تحققت في كنف نهج ميز قيادة الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز قوامه الصرامة، والوطنية العالية، وقوة التحمل، وعلو الهمة، وصلابة العزيمة، والثقة في النفس، والاعتزاز والإيمان بموريتانيا والاعتداد بقدراتها ومقدراتها، والوقوف والتوقف حيثما كان أمرا ما لا يخدم مصالحها ووحدتها وأمنها واستقرارها وسيادتها، وهو نهج يعترف به للرجل حتى خصومه عندما يكونون في لحظة صفاء أو " خلوة إنصاف " ونتوقع منهم اليوم الاعتراف بأهمية مواصلته ما دام حرج ذلك الاعتراف متمثلا في شخص الرئيس ولد عبد العزيز قد زال اليوم..

نعم، لقد اتصف الرئيس ولد عبد العزيز بكل هذه الصفات القيادية لشعب لم يبالغ أحدهم عندما قال إنه من أصعب شعوب الأرض سَوْسًا ومراسا، مجتمعا من يقوده عليه أن يُجيد السير والتحرك في حقول الألغام، مجتمعا من المفترض أنه، ككل المجتمعات يعرف ماذا يريد، ولكنه لا يعرف ماذا يريد، لا تستطيع وكما يقول المثل أن تعرف ( حكّو من كذبُ ) أوجده من هزله، أو نصحه من خداعه، ولا يكاد يجتمع منه اثنان على هدف بنَّاء خصوصا إذا تعلق الأمر بمصلحة وطنية أو هدف عام، سمته التعقد والمتناقضات وعدم الإنصاف ثم الكسل والخمول والسلبية والترفع عن العمل والإنتاج، وفي نفس الوقت البذخ والاتكالية ومد العينين إلى ما متع الله به مجتمعات أخرى من تطور وظروف عيش كان سلاحها لها العمل والمبادرة والإنتاج، بينما ليس لدى مجتمعنا من أسلحة ولا وسائل لذلك سوى مد العينين والاستسلام للسلبية والكسل والوضع باللائمة كاملة على الغير..!

 مجتمعا ينظر كل فرد فيه إلى الدنيا من حوله من ثقب واحد صغير لا يرى منه إلا مصلحته، وإن رأى أبعد من ذلك قليلا فمصلحة جماعته، لينتهي هنالك الأفق والضوء ويصبح كل ما وراء ذلك في عينيه عتمة وسوادا، وكل إصلاح أو تحديث على حساب مصالحه الذاتية هو في منظروه فساد وجور وقطع رزق واستهداف، حتى ولو خِلت " سراب " تعلق وأحاديث وكتابات الكثيرين من أفراده ونخبه عن الإصلاح والتغيير " ماء "!! مع الضعف الشديد، إن لم نقل الغياب التام في أوساطه لذلك الدور المنوط بالمجتمع عادة فيما يخص جهود التنمية والإصلاح.. ولا نبرئ الكثيرين من مسؤوليه في جمودهم وغياب روح المبادرة والأفكار البناءة لديهم، وقلة غيرتهم مما يشهادونه في العالم من حولهم لخلقه في بلدهم وأحيانا تكون لديهم الإمكانيات لخلقه، لكنه الجمود واللامبالاة وأشياء أخرى دائما أو أحيانا.. هذا عموما وإن كان هناك دائما من رحمهم ربك لكنهم، بهذا الخصوص، حبات تبر صغيرة في مجابات من الرمال أو قطرات ماء عذب في محيط!

 هذا بالإضافة إلى ما كنا نعرفه ونُعايشه في مجتمعنا أيضا من تدن لمنسوب الروح الوطنية وغياب لإيثار الوطن ومصالحه وتقديمها على مصالح الجماعة والفرد، وهو ما يبدو أن الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز بدوره عانى منه كثيرا وعايش منه أكثر ربما في مطلع كل شمس، ومع كل لبنة وضعها طيلة فترة حكمه بحكم تعاطيه اليومي مع الشأن العام كآمر ومُقرر وواقف على النتائج والتفاصيل، وظل محتفظا بذلك الإحساس المر و" الثقيل " صابرا عليه كالحرقة في صدره إلى أن باح به بالأمس للكاتب والأستاذ محمدن ولد إشدو عندما جاءه في القصر لتوديعه، فتحدث له من ضمن ما تحدث له عنه عن غياب الروح الوطنية لدى أغلب الناس! 

 وإذا كان لا بد من الحديث عن " ديْن " بين الرجلين فرئيس الجمهورية السيد محمد ولد الغزواني بالتأكيد مدين، ولكن فقط تنمويا وتسييريا، لنظام رفع عنه الكثير من التحديات وتحمل عنه الكثير من الجهود، وسلمه بلدا لديه الكثير من المكتسبات الفاتحة لأكثر من ذلك من الآفاق الواعدة والآمال ممكنة التحقق التي لولا تلك المكتسبات لما ناسب أو صح الحديث عن آمال ممكنة التحقق أو عن آفاق، وعودوا إن شئتم لخطابي ترشحه وتنصيبه ( ولكلام من فم مولاه أحل ). أما إذا كان مدينا لجهات أخرى حساسة للحديث عن مواصلة نهج سلفه الرئيس ولد عبد العزيز، بالمعنى الذي قصدناه بمواصلة النهج، كتلك الجهات التي أنسحبت من مواقعها المعارضة والتحقت به خلال حملته الانتخابية، فهذه لا ينبغي أن تتحرج أو تتحسس من مواصلته ذلك النهج، لأن كل من لهم شأن سياسي من تلك الجهات والجماعات اعترفوا خلال مؤتمرات إعلان دعمهم له بمكتسبات وإنجازات سلفه، بعضهم تلميحا في دار الشباب، وبعضهم الآخر تصريحا واستفاضة وتفصيلا في قصر المؤتمرات.. وبدا جليا أن ما كان يمنعهم من الإعتراف بتلك المكتسبات كان مواقفهم وتموقعاتهم السياسية السابقة لا غير!

محمدو ولد البخاري عابدين

جمعة, 23/08/2019 - 13:26